على العبد أن يبذل جهده قدر المستطاع، وليس عليه إدراك النتائج، وقد يأتي الله عز وجل بخير من طريق لم تتحرَّك فيه خطوة؛ وذلك لأن الله رآك تبذل جهدًا كبيرًا مخلصًا فأراد أن يمنحك من حيث لا تتوقَّع!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخاطب القبائل في موسم الحجِّ في أماكن التجمُّعات الكبرى، فيذهب إلى الأسواق، أو غيرها من التجمُّعات، فيُحَدِّثهم عن الإسلام، في الوقت الذي يتبعه بعض المشركين كأبي لهب أو أبي جهل يُكَذِّبونه ويطردون الناس عنه؛ ولكن من فضل الله ومَنِّه أن أرسل له سبحانه رجلًا إلى داخل بيته، ليسمع منه الإسلام بعيدًا عن أعين الناس، ويكون إسلامه فتحًا بعد ذلك! وهذا هو الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه.
ولقد وردت قصَّة هذا الرجل الجليل في أكثر من مصدر بأسانيد مرسلة ضعيفة؛ ولكن يشدُّ بعضها بعضًا، بالإضافة إلى أن هناك في صحيح البخاري ومسلم ما يشهد لصدق هذه الروايات.
كان الطفيل بن عمرو زعيمًا لقبيلته دَوْس اليمنية، وكان شاعرًا لبيبًا، وسيدًا شريفًا، وقد استقبله زعماء الكفر قبل دخوله مكة، وحذَّروه من السماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا له أن له كلامًا كالسحر يسحر به الناس ويغويهم، ولنترك الطفيل بن عمرو الدوسي يحكي لنا قصَّته، لنعلم تدبير ربِّ العالمين..
لقد رأينا في القصة السابقة أن الله عز وجل هو الذي ساق الطفيل رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان من الذين استجابوا بسرعة عجيبة؛ فقد فتح الله قلبه للقرآن في دقائق، مع أن قلوب أهل مكة قد أُغلقت دونه سنوات وسنوات..
ثم إن الطفيل رضي الله عنه رحل بدعوته إلى قبيلته في اليمن، فأسلم أبوه ثم زوجته؛ إلَّا أن بقية القبيلة لم تُسارع إلى الإسلام، وهو الأمر الذي ضاق به الطفيل، حتى يئس منهم، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو إليه الفساد الذي عليه قومه؛ وذلك من سجود للأصنام، وزنًا قد فشا بينهم، ويشكو امتناعهم عن دخول الإسلام، ثمَّ في محاولة يائسة منه يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم فيتخلَّص منهم جميعًا! لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له رأي آخر.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابُهُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا. فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ»[12].
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّاسُ: هَلَكُوا. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ، اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ»[13].
وزاد ابن إسحاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للطفيل رضي الله عنه: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُم وَارْفُقْ بِهِمْ»[14].
وإن ذلك لمن كمال خُلُقِه العظيم صلى الله عليه وسلم، ورحمته بالعالمين، وهو درسٌ قويمٌ للطفيل رضي الله عنه ومَنْ يسير على نهجه إلى يوم الدين.
وفي تطبيق عمليٍّ لهذا التوجيه النبوي قام الطفيل رضي الله عنه بدعوة إسلامية رفيقة في اليمن أسفرت عن إسلام سبعين أو ثمانين أسرة من أسر قبيلة دوس!
إنه رجل واحد أسلم في يوم من أيام الدعوة الصعبة، فإذا بالله عز وجل يفتح به فتوحًا هائلة، فتأتي قبيلته البعيدة عن مكة مسلمة مؤمنة مهاجرة إلى المدينة بعد عشر سنوات كاملة من هذه القصة! وحقًّا ما أروع تدبير ربِّ العالمين!
وتعليقان أخيران على قصة الطفيل رضي الله عنه:
أمَّا التعليق الأول: فهو أن الطفيل ظلَّ يدعو قبيلته مدَّة عشر سنوات كاملة؛ وذلك ابتداء من أواخر العام العاشر من البعثة إلى العام السابع من الهجرة، واستطاع أن يحقق نجاحًا منقطع النظير، فقد أسلم معه سبعون أو ثمانون بيتًا، وكان من هؤلاء الصحابي الجليل ناقل السُّنَّة، وحافظ الحديث النبوي أبو هريرة رضي الله عنه، والملاحظة المذهلة في الأمر أن العلم الذي كان عند الطفيل كان علمًا قليلًا جدًّا؛ بل لعلَّه أقل من علم كثير من المسلمين الذين يعيشون على الأرض الآن؛ ومع ذلك فقد كانت حركته لأجل الدين أعلى من حركة وجهد معظم المسلمين؛ فمن الواضح إذن أن المسألة في حقيقتها ليست مسألة تخمة علمية، ومعرفة نظرية؛ بل الأهم هو القلب الصادق، والنية الخالصة، والعمل الدءوب؛ وعندها تتحقَّق نتائج لا يحلم بها أصلًا عامَّة الناس.
أمَّا التعليق الثاني: فهو أن الطفيل رضي الله عنه بعد أن أسلم هو وأبوه وزوجته، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، دعاه إلى اليمن ليعيش فيها في حمايته؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض هذا الأمر..
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو[15].
ولماذا رفض ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يُفَسِّر ذلك رواية أخرى في مسند أبي يعلى عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه كذلك قال فيها: «قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ إِلَى حِصْنٍ حَصِينٍ، وَعَدَدٍ وَعُدَّةٍ -قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: الدَّوْسُ: حِصْنٌ فِي رَأْسِ جَبَلٍ لَا يُؤْتَى إِلَّا فِي مِثْلِ الشِّرَاكِ- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَعَكَ مَنْ وَرَاءَكَ؟» قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ لِمَا ذَخَرَ اللهُ لِلأَنْصَارِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم...»[16].
فهذه الرواية تُوَضِّحُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض الهجرة إلى اليمن لأن المسلم بها آنذاك هو الطفيل بن عمرو وحده، وليس معه عدد من المؤمنين يمكن أن يُشارك في بناء الدولة، وبالتالي فالهجرة غير آمنة، والدولة المرتقبة ستكون غير مستقرَّة؛ لذا أجَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر حتى يجد مكانًا يغلب على تركيبة سكانه الإسلام، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يُريد أن يُقْدِم على خطوة جريئة كخطوة الهجرة الكاملة إلى بلد حتى يطمئنَّ أنها ستكون هجرة للأصلح والأرسخ.
وقد قَبِلَ قَبْلَ ذلك -وسيقبل لاحقًا كذلك- الهجرة إلى الحبشة؛ بينما رفضها إلى اليمن؛ لأن الحبشة مملكة كبيرة قوية يتمكَّن النجاشي من حكمها باقتدار؛ وبهذا فهو يمكن أن يتحمَّل مسئولية الوفد المسلم المهاجر إليه؛ بينما وضع الطفيل رضي الله عنه في اليمن ليس على هذه الصورة؛ فقبيلته مجرَّد قبيلة واحدة من قبائل اليمن، وليست له السيطرة الكاملة عليها، ولا يُريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي عمره هو والصحابة في حصن عسكري آمن كحصن دوس، بل يُريد أن يُخالط الناس وينشر دعوته؛ لذلك فهو لن يُهاجر هجرة كاملة بنفسه وبأصحابه إلا عندما يتوفَّر الشَّعْبُ -وليس المـَلِك- الذي يقبله ويُعَاونه في مهمَّته الكبرى