باحثة فلسطينية تحيي التاريخ المنسي للذهب الأخضر
عبر أطروحتها "الموروث المادي في القرية الفلسطينية
من خلال إعادة تقديم معاصر الزيتون التقليدية"
خاص بآفاق البيئة والتنمية
بحثت الأكاديمية وأستاذة تاريخ الفن والتصميم الداخلي
في كلية فلسطين التقنية ميسون الشرقاوي عن جديد
في الموروث الثقافي لم ينل حقه في المكتبة التراثية
الفلسطينية، فاختارت حقبةً زمنية شهدت نهضة صناعية
على مستوى إنتاج زيت الزيتون "أحد أبرز مقومات الاقتصاد
الفلسطيني تاريخياً"، فتنقلت في رحلتها الأكاديمية بين
المعاصر اليدوية بتفاصيلها التقنية، وطبيعة المواسم التي
ارتبطت بها، فأضافت وفرة من الذاكرة المنسية في
الأرشيف الفلسطيني.
يناقش موضوع الرسالة، كما تخبرنا ميسون، الموروث
الثقافي بشكل أساسي من خلال الموجودات المادية بعيدا
عن المواقع الأثرية التي ترجع لفترات قديمة جدا، ففي
هذه الأطروحة يتم تناول تاريخ فلسطين "الحديث" أي
الفترة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن
العشرين، عبر البحث عّما تبقى من موجودات في الميدان
"القرية الفلسطينية"، ومن هنا جاءت فكرة البحث عن اخر
نوع مستخدم من معاصر الزيتون اليدوية نظراً للتاريخ
الطويل الخاص بالمنطقة في عملية تطوير تقنيات استخراج
زيت الزيتون في فلسطين والذي يعود إلى أكثر من 3000
سنة.
أنهت ميسون الشغوفة بالعلم، البكالوريوس في تخصص
الهندسة الداخلية المعمارية من المدرسة العليا للفنون
الجميلة في تونس، والماجستير في الموروث الثقافي من
فرنسا جامعة نانت، وتقترب حالياً من نهاية رسالتها في
الدكتوراة من جامعة لورين الفرنسية.
"كان الماجستير عن تطوير الموروث الثقافي والصناعي
والاقتصادي في المدن الصناعية، وقد خصصتُ رسالتي عن
بلدة بيرزيت وتحديداً كيفية ربط البلدة القديمة التاريخية
مع المدينة الحديثة من خلال مد الجسور الثقافية المتمثلة
بالمبادرات والنشاطات الموسمية". تقول ميسون التي
تولي اهتماماً واضحاً بالموروث الثقافي.
لماذا المعاصر؟
وحول استهدافها للمعاصر على وجه الخصوص في
أطروحتها، فأشارت ميسون إلى أن هذه المعاصر هي جزء
مهم من ذاكرة القرية الفلسطينية ومرتبطة أيضا بذاكرة
مجتمع كبير خارج القرية، ولذلك يبقى هذا الموضوع تحت
مظلة الموروث الثقافي الذي تم تناوله من منظور
انتروبولوجي واثنوغرافي.
توضح ميسون أيضاً:" أهم ما قمنا بعمله هو أننا وثقنا ما
تبقى من هذه الموجودات التي تتضمن العمارة والأدوات
التي تتعلق بتقنيات عصر الزيتون المستخدمة في القرية،
والمصطلحات ذات الصلة. حيث قمنا بصناعة المادة
الأرشيفية ومن ثم دراستها وتصنيفها. وبرأيي هذا هو
السؤال المهم الذي يجب أن يسأله أي باحث في مجال
الموروث الثقافي، هل أبدأ البحث من الأرشيف "إن وجد"
أو إيجاد ما تبقى في الميدان؟"
"كان العمل الميداني ضروريا في ظل افتقار المكتبة
الفلسطينية لمعلومات كثيرة عن اقتصاد الزيتون، باستثناء
مرور سريع في بعض الكتب التاريخية التي ركزت على
الجانب الاقتصادي أكثر من الفيزيائي للمعاصر". تقول
الباحثة التي زارت 52 قرية في محافظة رام الله شاركها
رحلة الزمن في استكشاف زوايا تلك الحقبة، فريق بحث
كامل من جامعة بيرزيت -الأخيرة التي قدمت الدعم المادي
واللوجستي لجرد ما تبقى من هذا الموروث- تألف من:
د.حامد سالم في الدراسات الأثرية، إبراهيم قطيط في
الرسم والتخطيط المعماري ونور أبو خضير في توثيق
الرواية الشفوية.
مراحل عصر الزيتون في حقبة الدراسة
جولات ميسون في الميدان، ومشاهدتها للمعاصر عن قرب،
جعلها تعيش مراحل وتفاصيل إنتاج الزيتون في تلك الحقبة
والتي ترتكز أساساً على العصر، والذي يتم في مبنى
المعصرة أو البدّ كما هو شائع تسميته، وهو مبنى ذو طابع
يجمع بين التقليدي والصناعي، ويختلف عن المباني
المخصصة للسكن في القرية من حيث المساحة والتقسيم
وفقا للمساحات المطلوبة لهذا النوع من الإنتاج.
وتتلخص عملية استخراج زيت الزيتون بثلاث مراحل أساسية،
كل مرحلة لها تقنياتها الخاصة:
-المرحلة الأولى: يوضع الزيتون المجدود حديثا في مكامر
داخل مبنى المعصرة، أي أماكن خاصة تضع فيها كل عائلة
زيتونها بانتظار دورها لدرس الزيتون على" البد" وفقا
للمثل القائل "من الشجر إلى الحجر". بعد ذلك يدور حجر
عامودي "حجر البد" يُجّر بواسطة نوع من الدواب، حيث
يقوم بهرس الزيتون وتحويله لدريس كي يسهل استخراج
الزيت منه، ومن الجدير ذكره ان هذه الحجارة المستخدمة،
استخرجت كلها من محاجر قريبة من القرية حيث من الصعب
أن يتم الإتيان بحجر بهذه الضخامة من أماكن بعيدة.
أما المرحلة الثانية فتتمثلُ في عصر الدريس، وتعتبر هذه
العملية من أهم المراحل التي يمر بها هذا الإنتاج، وقد
كانت هذه العملية على مر العصور العملية الوحيدة التي
خضعت لتطور دائم لغاية استخراج أكبر قدر ممكن من زيت
الزيتون. وتاريخيا هنالك تقنيات عديدة أستخدمت، أما في
هذا السياق، فالآلية المستخدمة هي "مكبس الحديد"
الذي بدأ بالظهور مع أواخر القرن التاسع عشر، ويعتبر
بمثابة طفرة في عالم استخراج زيت الزيتون، فقد كانت
تفرغ كمية معينة من دريس الزيتون في قفة دائرية
مصنوعة في الغالب من ألياف نباتية، بحيث توضع نفس
الكمية في كل قفة ويصف عددٌ منها 25-30 قفة، من ثم
يتم كبسها من خلال الضغط عليها او ما يسمى" بالشدة "
اي تحريك منجنيق جانبي بقوة عدد من الرجال "الشدادة"
أثنين أو أربعة.
بعد ذلك، تأتي المرحلة الثالثة وتتمثل بفصل الماء عن
الزيت، حيث يتدفق خليط الزيت "الماء والزيت" الى "جرن
أول" مزود بقناة حيث يسري الزيت الطافح على السطح الى
"جرن ثان" و تتم عملية جمع الزيت و تعبئته بجرار (جمع
جرة)، تتسع كل واحدة منها الى 25 كغم. من ثم كان يتم
استغلال الدريس المستعمل أساسا ويطلق عليه مصطلح
"الجفت" مرة ثانية وثالثة أيضا من خلال رشه بماء ساخن،
والزيت الناتج عن هذه العملية كان يستخدم في صناعة
الصابون الشهيرة وخاصة في مدينة نابلس. هذه التقنية
في استخراج الزيت كانت آخر تقنية تقليدية استخدمت في
استخراج زيت الزيتون في القرية الفلسطينية. من ثم
ظهرت المحركات واندثرت مباني البدود مع كل ما كانت
تحويه.
وقد اهتمت الباحثة بالمكبس التقليدي الحديدي لأن
صناعته كانت بمعظم الأحيان محلية، بدأت عبر تقليد نماذج
مستوردة من أوروبا وخاصة تلك الدول المنتجة لزيت
الزيتون في أواخر القرن التاسع عشر، والتي صنّعت خصيصاً
لدعم الإنتاج الاقتصادي القروي ليخدم المدن وليس
العكس كما درج في المدن الصناعية.
تذكر ميسون بأن أول معصرة دخلت فلسطين كانت في عام
1852، من خلال البعثات الدبلوماسية والدينية والتي كانت
تزود رعاياها بما يساعدهم في إدارة شؤونهم، وقد بقيت
معصرة المكبس الحديدي مستخدمة حتى ظهرت الماكينات
التي تعمل على الببور وتقوم أوتوماتيكيا بفصل الزيت عن
الماء معتمدةً على مبان اكبر صممت خصيصا لهذا النوع من
الصناعة، ولكن لندرة الوقود او الكهرباء في القرية ظل
الطابع اليدوي منتشراً حتى خمسينات القرن الماضي.
ميسون الشرقاوي في داخل معصرة فلسطينية تاريخية
الموروث الثقافي
تتطرق الدراسة خاصة، وفق الباحثة، إلى إعادة طرح
مصطلح التراث المادي في فلسطين: وإعادة بلورة تصنيف
مصطلحات الموروث الثقافي العديدة . فبعد نكبة 1948 و
نكسة 1967 بدأ الاهتمام بشكل كبير بالفلكلور الفلسطيني
طبعا بعد الاستيلاء على جزء كبير من القرى الفلسطينية،
وبالتالي لم يعد هنالك أي موروث مادي "حديث" قد نستند
عليه، حيث أثر ذلك بشكل واضح أيضا على الأدبيات الخاصة
بالموروث الثقافي التي أنتجت بعد تلك الفترة الى اليوم.
فالفترة التي بدأ فيها ظهور "المكبس البرغي الحديد
لعصر الزيتون"، هي تلك الفترة نفسها التي شهدت توسع
شبكة المواصلات وتطور وسائط النقل، واستخدام
المحركات في الري، والمحراث والمنجل الحديثين والحصّادات
والأسمدة في الزراعة، والمحرك البخاري في طحن الحبوب،
بالإضافة إلى التطور الذي شهده الوضعان التعليمي
والثقافي.
هذه المكابس، تفيد ميسون، والتي سبقت الآلة، كانت قد
شكلت نواةً لثقافة "صناعية" في القرية الفلسطينية
بشكل خاص، والتي لم تتطور بالشكل المنطقي لعدة
أسباب نعرفها، فغاب مفهوم الثقافة الصناعية، بالرغم من
أن إنتاج زيت الزيتون من أهم منتجات القرية، وقد ساهم
بربط القرية بالعالم الخارجي "المدينة" إلا أن هذا الموروث
الصناعي الريفي، لم يقدم بشكل دقيق ولم يعطِ القيمة
التي يستحقها، حيث أن هنالك اختلاف بين المنتوجات
الصناعية داخل القرية وتلك التي في المدينة.
المعاصر والبعد الاجتماعي الإنساني، والبيئي
تشير ميسون إلى أن جد الزيتون في الماضي كان يبدأ من
أوائل حتى منتصف شهر نوفمبر، حيث كان أهالي القرية
ينتظرون أن يصل الزيتون لمرحلة النضج والامتلاء الأقصى
ليسهل درسها ومن ثم عصرها، أما اليوم فموسم الزيتون
يبدأ مع أواخر شهر سبتمبر أيلول، لتوفر الآلات الحديثة
لاستخراج الزيت.
وتلفت إلى أن هنالك العديد من الأمور التي يمكننا الاشارة
اليها من خلال ثقافة القرية الفلسطينية في هذا الموسم
فكان هناك ما يدعى بالعونة حيث يتوجه كل الأهالي لجد
الزيتون لبعضهم البعض، وكان في كل قرية معصرتان حتى
ثلاث، حيث تعمل طوال النهار والليل لتنجز الكميات الوفيرة
من زيت الزيتون، وقد يستمر العصر مدة شهرين حتى ثلاث
من وقت القطاف. والجميل ان النساء طالما شاركن الرجال
في الجد وكبس الزيتون للأكل، فيما كان كل متطوع
للخدمة في عملية العصر كتوفير الدابة أو الكبس يتلقى
مقابل تعبه كمية من الزيت بدلا من النقود.
ترى ميسون في رسالتها بعداً إنسانيا بيئياً يتجلى في
علاقة الإنسان مع الطبيعة من حوله، فالقروي لا يتعامل مع
الزيتونة كشجرة تدر له الزيت فقط بل تجمعهما علاقة
وطيدة وهذا ما ترجم في السرد الشفوي للموضوع حيث لا
يضيّق الفلاح على شجرة الزيتون بزرع العديد منها في
رقعة صغيرة، بل يوفر لها متسعاً جيداً من التربة والشمس
والهواء لتكبر وتتمدد، كما ان كثيراً من المزارعين قد
وصفوا الشجر بغلاوة الأبناء، وبعضهم من أهالي المغتربين
ما زال حتى اليوم يبعث لأبنائه زيت زيتون حتى أقصى بقاع
الأرض.
المعاصر والإقتصاد
أما البعد الاقتصادي في الأطروحة، فأبرزته الباحثة في
الهدف من إنتاج الزيت، والذي لم يكن للاكتفاء الذاتي
فقط، بل كان زيت رام الله يباع للمدينة الفلسطينية ما
عكس ديمومة اقتصادية للقرية الفلسطينية.
كان لتلك الآلة الجديدة أثرٌ ملحوظ على كميات الزيت
المستخرج، تضيف ميسون، حيث ساهمت في رفع مدخول
الفلاح، وأيضا لعبت دوراً في إنتاج الصابون "فبعض أصحاب
هذه المصابن كان على استعداد لتوفير هذه الماكنات
وخصوصا في قرى نابلس، واستغلال "جفت الزيتون" لمرة
ثانية وثالثة لاستخراج زيت موجه لهذه الصناعة التي كانت
مزدهرة في تلك الأثناء خصوصا في نابلس، مع وجود
مصابن أخرى أيضا في مناطق يمكن أن يطلق عليها
مصطلح "صناعية" كمدينة يافا التي شهدت عصرا مزدهرا
أيضا.
وترى ميسون أن توفّر أعداد من المعاصر في كل قرية كان
أمراً نسبياً ويعتمد على عاملين هما: مناخ القرية والوضع
المادي، حيث انه غالبا ما كان اصحاب هذه المعاصر وخاصة
المزودة بالمكبس الحديدي اليدوي من أصحاب غالبية
اراضي الزيتون في القرية، فيترتب عليهم الاستثمار في
هذه الآلات لرفع إنتاج زيت الزيتون لديهم. فالقرى التي
تكثر فيها أشجار الزيتون لوفرة الأمطار تتوفر فيها ثلاث
معاصر كحد أدنى، فيما القرى التي على النقيض، فيرجع
السبب، لاقترابها من المناطق الشفاغورية حيث يقل
الإنتاج وتكتفي القرية بمعصرة واحدة أو بعصر زيتونها في
قرى مجاورة، ونادرا ما تخلو أي قرية فلسطينية من هذه
الشجرة أو بمعصرة وخاصةً في المناطق الشمالية
والوسطى من فلسطين التاريخية.
"لاحظتُ أن أغنى قرى منطقة رام الله بالمعاصر كانت قرية
عجول مقارنة مع عدد سكانها القليل ومساحاتها الشاسعة
من أراضي الزيتون، أما أفقرها فكانت القرى القريبة من
المناطق الشفاغورية" ومنها دير جرير على سبيل المثال".
تستشهد ميسون ببعض الأمثلة.
على الصعيد الشخصي
تلّخص الباحثة ميسون أثر تلك التجربة شخصياً: "أضافت لي
تلك الرحلة المعرفية انغماساً أكثر في مفهوم الروابط
الاجتماعية داخل القرية، تعمقت أكثر في هويتي الذاتية،
أدركت معنى حرية الجغرافيا من خلال العلاقة بين القرى
التي لا تحددُ معالمها بالأسوار أو البوابات بل يعرفها
أصحابها بشجر زيتونها الموشى على التلال، معالم طبيعية
تجعل كل قرية تتماهى مع الأخرى بلا نهاية".
تتمنى ميسون أخيراً بعد الانتهاء من أطروحتها، ونشرها
وتعميمها في المكتبة الفلسطينية، أن يتم تبني تلك
الحقبة تربويا وثقافياً من خلال الجهات الرسمية والمجالس
القروية عبر تنظيم المهرجانات الموسمية بالتعاون مع
وزارة التربية والتعليم لجعل الطلبة يعيشون بالنظر
والتجربة تاريخاً كان وما زال مكونا مهماً من الهوية
الفلسطينية، حيث كان بإمكانه أن يتطور ليصبح ركيزة
أساسية للاقتصاد الفلسطيني.
صورة لمبنى المعصرة أو البد في متحف التاريخ والفن
في بيت لحم "دار جقمان"
مكبس الحديد المصنوع في يافا
في اواخر القرن التاسع عشر
متحف التاريخ و الفن في بيت لحم "دار جقمان"
صورة من بيت جبرينـ. 1920 لرجل يقوم بتعبئة القفاف
بدريس الزيتون قبل عصرها
فلسطينيات من بيت لحم بالزي الشعبي عام ١٨٨٠
المصدر مكتبة الكونغرس
عضويتي 
التاريخ المنسي للذهب الأخضر
