يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] فميزة شهر رمضان العظيمة أنه أنزل فيه القرآن.
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معنيًا دائمًا بالقرآن، ولكنه كان يُعنَى عنايةً خاصة به في هذا الشهر المبارك، وكان يلقاه جبريلُ في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، ودراسة القرآن وتلاوته من أسمى القربات ومن أنفس العبادات؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب".
وثواب قراءة القرآن جزيل؛ فالحرف منه بحسنة والحسنة بعشر أمثالها؛ يقول صلوات الله وسلامه عليه فيما روى الترمذي: ((مَنْ قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعَشْر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
وقد وردت الآثار في الحث على قراءة سور وآيات مخصوصة؛ فالفاتحة: أعظم سورة في القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، والمعوذتان لم يُر مثلهما قط، ومن القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ}.
وقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه"، ويعقب الإمام النووي على ذلك بقوله: كفتاه المكروه تلك الليلة، وقيل كفتاه من قيام الليل.
أما أعظم آية في كتاب الله فإنها آية الكرسي؛ روى الإمام مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع نقيضًا -أي صوتًا- من فوقه فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض ولم ينزل قط إلا اليوم، فسلم -أي الملك- وقال مخاطبًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبشر بنورين أوتيتَهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته".
من كل ذلك نتبين فضل تلاوة القرآن وعلى الخصوص في شهر نزول هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. أما الأمر الثاني الذي كان يكثر منه الرسول صلوات الله وسلامه عليه في شهر رمضان فهو الجود.
لقد بنيت طبيعته -صلى الله عليه وسلم- على الكرم، ولكنه في شهر رمضان كان أجودَ من الريح المرسلة؛ روى البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الريح المرسلة.
فهذا الحديث الشريف ربط بين رمضان والقرآن وكثرة الصدقة، والواقع أن كثرة الصدقة في رمضان هي الدليل الواضح الصحيح على أن الصوم وقراءة القرآن قد أثمرا الثمرة المرجوة.
أما هذا الذي يصوم رمضان ويتلو كتاب الله -وهو الرحمة والنور- فلا يشرق قلبه بنور الرحمة، ولا تتألق نفسه بضياء الكرم، ولم يوق شح نفسه، فإن ذلك يدل على أن وسائل النور هذه لم تتغلغل في نفسه فتصل إلى أعماقها مختلطة بلحمه ودمه فتقوده إلى الجود والإحسان.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، وشهر رمضان من المواسم التي يتضوع فيها الإيمان ويشرق في النفس فتتذكر عهدها مع الله؛ عهد الإيمان فتجود بالنفس في سبيله إذا لزم الأمر.
والجود بالنفس أسمى غاية الجود، والنفس تجود بالمال في سبيل الله مستبشرة بالوفاء بالعهد في صورته الهينة السمحة. إن الصدقة برهان على حد إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الشح المطاع فإنه من الثلاث المهلكات؛ يقول الله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ويقول سبحانه: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَة وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
على أن الرجل الذي يتصدق بصدقة فلا تعلم شمالُه ما أعطته يمينُه داخلٌ في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
كان صلواتُ الله وسلامُه عليه يُكثر من تلاوة القرآن، وكان جوادًا حتى إذا ما أتت العشرُ الأواخر من رمضان أحيا ليله، وإذا كان يجتهد في رمضان في العبادات ما لا يجتهد في غيره، فإنه في العشر الأواخر منه كان يجتهد ما لا يجتهد في باقي رمضان.
يقول صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:
((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفُثْ ولا يصخَبْ، فإن سابه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم. والذي نفسُ محمد بيده لَخُلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).