04-08-2022, 08:03 AM
|
|
|
|
سلسلة مكارم الأخلاق (57)
حسن الظن (1)
تحدَّثْنا في الجمعة الماضية عن صفة مراقبة الله - تعالى - التي يجب أن تكونَ مصاحِبَة للمؤمنين الذين يخافون ربَّهم، حين يعلمون أنه حفيظٌ عليهم، عليم بسرِّهم وعلانِيَتهم، يُحصي عليهم أعمالهم، وقد أقام عليهم الْحُجَّة، وقطَعَ لسانَهم بالمعذرة، فقال لهم: ((إنَّما هي أعمالكم أُحْصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمن وجَد خيرًا فليَحْمَد الله، ومن وجَدَ غير ذلك، فلا يلومَنَّ إلا نفسه))؛ مسلم.
غير أنَّ مِنْ رحمة الله - تعالى - أنه يَقبل التوبة عن عباده، ويجعل آمالَهم في عفوه وكَرَمِه معقودة، وتشوُّفاتِهم لِمَا عنده من خير مرصودة؛ ولذلك سيكون موضوعنا اليوم - ضمن الجزء السابع والخمسين من سلسلة مكارم الأخلاق - من الأهميَّة بمكان، فَطِنَ له أذكياءُ المسلمين فتعلَّقوا به، واستشرفَ له نُبهاؤهم فاطمأنوا إليه، إنه "حُسْن الظنِّ بالله وبالمؤمنين"، الذي ما دخل قلبًا إلا ملأه سعادة، ولا غزَا نفسًا إلا آنسَها من الله حسنَ الوِفادة، وما مَكَّن له المسلمون فيما بينهم إلا أذْهَبَ الله من قلوبهم البَغْضاء، وطهَّر نفوسَهم من الشَّحناء، وخَلَّصَ العلائق بينهم من الضغائن والأهواء، وسدَّ عليهم منافذَ الشيطان، فَمُنِعَ من الإيقاع بينهم، فقَلَّ خصامُهم، وامتنع تهاجُرُهم، وانتفى تدابرُهم، وحَسُنَتْ بفضْل الله أحوالُهم.
وإنَّ الداعي لِمثل هذا الموضوع ما نراه يجري بين الناس من الظنون، التي لا تحمل الأقوال والأفعال على مَحامل الخير، بل تفترض فيها عكسَ قصْدِها من غير بيِّنَة، وتَتَّهِم النوايا دونما حُجَّة.
ولهذا سنقسم الموضوع قسمين: حُسن الظن بالله، وحُسن الظن بعباد الله، ونقتصر اليوم - إن شاء الله تعالى - على القسم الأول.
قال التهانوي: "الظن عند الفقهاء: التردُّد بين أمرين استوَيَا، أو ترجَّح أحدُهما على الآخر"، فإذا رُجِّحَ جانبُ الخير سُمِّي: حُسن ظنٍّ، وإذا رُجِّحَ جانبُ الشرِّ، سُمِّي: سوء ظنٍّ؛ ولذلك يقال: رجلٌ ظَنون: إذا كان سيئَ الظنِّ.
والظن غالبًا ما يكون مذمومًا؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [يونس: 36، وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
والله - تعالى - أحقُّ مَن حَسُنَ ظنُّ المؤمن به، ولا يُسيء به الظنَّ إلا كافر أو مُشْرك أو منافق؛ قال - تعالى -: ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [آل عمران: 154]، وقال - تعالى -: ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ [الفتح: 6].
فَلاَ تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ ♦♦♦ فَإِنَّ اللهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
أمَّا المؤمنون، فقد أُمروا بأن تكون آمالُهم في عفو الله عظيمة، ورغبتهم في رحمة الله جَسيمة، وتطلُّعاتهم لنصر الله كبيرة؛ قال - تعالى - في الحديث القدسي: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظن بي ما شاء"؛ رواه الطبراني، وهو في صحيح الجامع.
وأعظم ما ينفع حُسْنُ الظن بالله - تعالى - عند الموت:
• فعن أبي النَّضْر قال: خرجتُ عائدًا ليزيدَ بن الأسود، فلقيتُ واثلة بنَ الأَسْقَع وهو يريد عيادته، فدخلْنا عليه، فلمَّا رأى واثلةَ بسَطَ يدَه، وجعَل يُشير إليه، فأقْبَل واثلةُ حتى جَلَس، فأخَذَ يزيد بكَفَّيْ واثلة، فجعلهما على وجْهه، فقال له واثلة: "كيف ظنُّك بالله؟"، قال: "ظنِّي بالله - واللهِ - حَسَنٌ"، قال: "فأبْشِرْ؛ فإني سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((قال الله - جل وعلا -: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، إنْ ظنَّ خيرًا فله، وإنْ ظنَّ شرًّا فله))؛ رواه أحمد، وهو في صحيح الترغيب.
• وعن جابر بن عبدالله الأنصاري - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظنَّ بالله - عزَّ وجلَّ "؛ رواه مسلم.
• ولقد كان على الزبير دَيْنٌ كبير، فأوصى ابنه عبدالله قبل مَقْتله قائلاً: "إنَّ من أكبر همِّي لَدَيْنِي، أفَتَرَى يُبقي دَيْنُنَا من مالِنا شيئًا؟ يا بُنَي، بعْ مالَنا، فاقضِ دَيْنِي، يا بُنَي، إن عَجَزْتَ عنه في شيءٍ فاستعنْ عليه مولاي"، قال عبدالله: "فوالله ما دريتُ ما أراد حتى قلتُ: يا أبتِ، مَن مولاك؟"، قال: "الله"، قال عبدالله: "فوالله ما وَقَعْتُ في كُربة من دَيْنِه إلا قلتُ: "يا مولَى الزبير، اقضِ عنه دَيْنه، فيَقضيه"؛ البخاري.
وَإِنِّي لأَرْجُو اللهَ حَتَّى كَأَنَّنِي ♦♦♦ أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
وكان على هَدْيِ حُسن الظن بالله سلف الأُمَّة:
• كان سعيد بن جُبير يدعو ربَّه ويقول: "اللهم إني أسألك صِدْق التوكُّل عليك، وحُسْن الظنِّ بك".
• وكان عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: "والذي لا إله غيره، ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئًا خيرًا من حُسْن الظنِّ بالله - عزَّ وجلَّ - والذي لا إله غيره، لا يُحسن عبد بالله - - عزَّ وجلَّ - الظنَّ إلا أعطاه الله - عزَّ وجلَّ - ظنَّه؛ ذلك لأن الخيرَ في يده".
• وكان سفيان الثوري - رحمه الله - يقول: "ما أحبُّ أنَّ حسابي جُعل إلى والدي؛ فرَبِّي خيرٌ لي من والدي".
• ونقَل ابن أبي الدنيا - في كتابه "حُسْن الظنِّ بالله تعالى" - قولَ سُهيل أخي حزْم القُطَعي : "رأيتُ مالك بن دينار - رحمه الله - في منامي، فقلتُ: يا أبا يَحيى، ليت شعري، ماذا قَدِمْتَ به على الله - عزَّ وجلَّ؟ قال: قَدِمْتُ بذنوبٍ كثيرة، فمَحَاها عنِّي حُسْنُ الظنِّ بالله".
وَإِنِّي لآتِي الذَّنْبَ أَعْرِفُ قَدْرَهُ
وَأَعْلَمُ أَنَّ اللهَ يَعْفُو وَيَغْفِرُ
لَئِنْ عَظَّمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا
وَإِنْ عَظُمَتْ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَصْغُرُ
الخطبة الثانية • إذا كنتَ في شِدَّة، فأحْسِنْ ظنَّك بالله - تعالى - يأْتِك الفرجُ بإذْنه.
• عن أنس - رضي الله عنه - عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قلتُ للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا في الغار: لو أنَّ أحدَهم نظَر تحت قَدَميه لأبصرنا، فقال: ((ما ظنُّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟))؛ البخاري.
• وإنَّ أصحاب الغار الثلاثة قد انطبقتْ على غارهم الصخرة، فكان الموتُ المحقَّق، لولا أن حُسْنَ ظنِّهم بالله - تعالى - غَلَب يأْسَهم وقنوطَهم، فدعوا الله - تعالى - وتوسَّلُوا له بصالح أعمالهم، ففرَّج عنهم ما كانوا فيه.
• وإنْ عَظُمتْ ذنوبُك، وكَثُرتْ زَلاَّتك، فاعلم أنك قادمٌ على كريم؛ قال - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
ويقول - عزَّ وجلَّ - في الحديث القدسي: "مَن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأَزْيَدُ، ومَن جاء بالسيئة فجزاؤه سيِّئةٌ مثلُها أو أَغفِر"؛ مسلم.
ويقول الرب الرحيم: "يا ابن آدمَ، إنَّك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبَالي، يا ابن آدم، لو بَلَغَتْ ذنوبُك عَنان السماء، ثم استغفرتنِي، غفرتُ لك ولا أُبَالي، يا ابن آدم، إنَّك لو أتيتني بِقُراب الأرض خطايا - ما يقارب مِلأَها - ثم لقيتنِي لا تُشْركُ بي شيئًا، لأتيتُك بِقُرابها مغفرة"؛ صحيح سُنن الترمذي.
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ♦♦♦ بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
غير أنَّ حُسْن الظن بالله يستوجِبُ العمل وتَرْك المعاصي، ولا يدعو إلى التواكُل والتعويل على مجرَّد رحمة الله وعفوه.
قال الحسن البصري - رحمه الله -: "إنَّ قومًا ألْهَتْهم الأمانيُّ حتى خرجوا من الدنيا وليستْ لهم حَسَنة، يقولون: نحن نُحْسِن الظنَّ بربِّنا، ثم قال: "ولو أحْسنوا الظنَّ بالله، لأحسنوا العمل".
وقال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "وكثيرٌ من الناس يظنُّ أنَّه لو فعَلَ ما فَعَل، ثم قال: أستغفر الله، زالَ الذنبُ وراحَ هذا بهذا، وهذا الضرْب من الناس قد تعلَّق بنصوص من الرجاء، واتَّكَل عليها، وإذا عُوتِبَ على الخطايا والانهماك فيها، سردَ لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته، ونصوص الرجاء، وللجُهَّال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائبُ وعجائبُ، كقول بعضهم:
تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا ♦♦♦ إِذَا كَانَ الْقُدُومُ عَلَى كَرِيمِ
ويقول ابن القَيِّم - أيضًا -: "ولا ريبَ أنَّ حُسْنَ الظنِّ بالله إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن حسن الظنِّ بربِّه أن يُجازيه على إحسانه، ولا يُخْلف وعْدَه، ويَقبل توبته".
فعن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: كان لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندي في مرضه ستةُ دنانير أو سبعة، فأمرني رسول
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن أفرِّقَها، فشغَلَني وجعُ نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم سألَنِي عنها: ((ما فعلَتِ الستة أو السبعة؟))، قلتُ: لا والله، لقد كان شَغَلني وجعُك، فدَعَا بها، ثم وضَعَها في كفِّه، فقال: ((ما ظنُّ نبي الله، لو لَقِي الله - عزَّ وجلَّ - وهذه عنده؟))؛ رواه أحمد، وهو في الصحيحة.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
04-08-2022, 06:44 PM
|
#2
|
04-08-2022, 09:38 PM
|
#3
|
لجهودك باقات من الشكر والتقدير
على المواضيع الرائعه والجميلة
ولك من الابداع رونقه
ومن الاختيار جمماله
دام لنا عطائك المميز والجميل
|
|
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
04-08-2022, 11:26 PM
|
#4
|
جزاك الله خير
ورزقك الجنان
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
04-08-2022, 11:26 PM
|
#5
|
جزاك الله خيراً على انتقائك القيم
وجعلها ربي في ميزان حسناتك
وفي انتظار المزيد
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
04-10-2022, 03:59 AM
|
#6
|
سلمت على روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا روعه مواضيعك
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
04-10-2022, 11:30 AM
|
#7
|
طرٍح رٍآئع كَ ع ـآدتك ...
يتمـآيل آليـآسمين شذى بجمـآل متصفحك ..
ؤتترٍآقص آلـ ؤرٍؤد متعطرة برٍؤعة مَ طرحته أنـآملك
لرٍؤحك أطيب آلـ ؤرٍد ؤأكـآليل آلـ زهرٍ
معطرٍة برٍقةرٍؤحك
|
|
|
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
06-01-2022, 01:21 AM
|
#8
|
جزاك الله خيرا
يعطيك العافيه يارب
اناار الله قلبكك بالايمــــــــان
وجعل ماقدمت في ميزان حسناتكـ
لكـ شكري وتقديري
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
08-12-2022, 01:24 AM
|
#9
|
ديمـه
جزاك الله خير على طرحك القيم
بارك الله فيك وكثر من امثالك
لاخلا ولا عدم
| | | | | | | | | |