كان من أنوار العام العاشر من البعثة كذلك أن أسلم أبو ذر الغفاري رضي الله عنه! وقد كان إسلامه فتحًا كبيرًا؛ بل إنه بعث التفاؤل في نفوس الكثيرين؛ حيث إنه حقَّق النجاح من حيث يتوقَّع الجميع الفشل!
لقد كان أبو ذر رضي الله عنه من قبيلة غفار؛ وهي قبيلة خطيرة اشتُهِرَتْ بقطع الطريق على المسافرين، وتخصَّصت في أعمال السلب والنهب. نعم من المؤكَّد أنه ليس كل أفراد القبيلة على هذه الصورة؛ ولكن كان هذا هو الغالب الأعم فيها.
ومع ذلك فقد ألقى الله عز وجل في قلب أبي ذر رضي الله عنه حُبَّ البحث عن الحقيقة، وألقى في قلبه كذلك الشكَّ في هذه الأصنام التي يعبدها الناس، فصار مترقِّبًا لأي أمر يقوده إلى العبادة الحقَّة؛ وذلك مع أنه يعيش في وسطٍ من المجرمين واللصوص! لكن هذا تقدير رب العالمين.
وقد جاءت قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه في روايتين كبيرتين؛ إحداهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والأخرى عن عبد الله بن الصامت رحمه الله، وهو من التابعين نقلًا عن أبي ذر رضي الله عنه، ولنقرأ الروايتين أولًا، ثم نُعَلِّق بعض التعليقات إن شاء الله..
أمَّا الرواية الأولى فهي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال فيها: «لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، يَأْتِيهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي. فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ، وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ. فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ. فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى المَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ، فَاضْطَجَعَ؛ فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى المَسْجِدِ، وَظَلَّ ذَلِكَ اليَوْمَ وَلَا يَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ[1] لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ؟ فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، لَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ، فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ. فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ[2]، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي. فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي». قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى المَسْجِدَ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. ثُمَّ قَامَ القَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، وَأَتَى العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، قَالَ: وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ. فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ لِمِثْلِهَا، فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ العَبَّاسُ عَلَيْهِ»[3].
وأمَّا الرواية الثانية فنقلها التابعي الثقة عبد الله بن الصامت الغفاري عن أبي ذر رضي الله عنه..
فعن عبد الله بن الصامت، قال: قال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ، وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَنَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا، فَأَكْرَمَنَا خَالُنَا وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا، فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ. فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا[4] عَلَيْنَا الَّذِي قِيلَ لَهُ، فَقُلْتُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ، وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ. فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا[5]، فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا، وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ فَجَعَلَ يَبْكِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ، فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا[6]، فَأَتَيَا الْكَاهِنَ، فَخَيَّرَ أُنَيْسًا[7]، فَأَتَانَا أُنَيْسٌ بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا. قَالَ: وَقَدْ صَلَّيْتُ[8]؛ يَا ابْنَ أَخِي[9] قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِ سِنِينَ. قُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلهِ. قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّي، أُصَلِّي عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ[10]، حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ. فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي. فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَرَاثَ[11] عَلَيَّ، ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ، يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ. قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ، قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ[12]، فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ: قُلْتُ: فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ[13]. قَالَ: فَأَتَيْتُ مَكَّةَ فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ[14]، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَقَالَ: الصَّابِئَ. فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلٍّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، قَالَ: فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ[15]، قَالَ: فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَغَسَلْتُ عَنِّي الدِّمَاءَ: وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وَلَقَدْ لَبِثْتُ، يَا ابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ، بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي[16]، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ[17]. قَالَ: فَبَيْنَا أَهْلِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانٍ[18]، إِذْ ضُرِبَ عَلَى أَسْمِخَتِهِمْ[19]، فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ. وَامْرَأَتَانِ مِنْهُمْ تَدْعُوَانِ إِسَافًا، وَنَائِلَةَ، قَالَ: فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي طَوَافِهِمَا فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الأُخْرَى. قَالَ: فَمَا تَنَاهَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا[20]، قَالَ: فَأَتَتَا عَلَيَّ فَقُلْتُ: هَنٌ[21] مِثْلُ الْخَشَبَةِ -غَيْرَ أَنِّي لَا أَكْنِي[22]- فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ[23]، وَتَقُولَانِ: لَوْ كَانَ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا[24]. قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا هَابِطَانِ[25]، قَالَ: «مَا لَكُمَا؟» قَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا. قَالَ: «مَا قَالَ لَكُمَا؟» قَالَتَا: إِنَّهُ قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلأُ الْفَمَ[26]. وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ، ثُمَّ صَلَّى فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ -قَالَ أَبُو ذَرٍّ- فَكُنْتُ أَنَا أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلَامِ، قَالَ: فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ». ثُمَّ قَالَ: «مَنْ أَنْتَ؟» قَالَ: قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ. قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِ انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ. فَذَهَبْتُ آخُذُ بِيَدِهِ، فَقَدَعَنِي صَاحِبُهُ[27]، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: «مَتَى كُنْتَ هَاهُنَا؟». قَالَ: قُلْتُ: قَدْ كُنْتُ هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ. قَالَ: «فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟». قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ. قَالَ: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ[28]». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ. فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَفَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا، ثُمَّ غَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ[29]، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ[30] ذَاتُ نَخْلٍ، لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ؟ عَسَى اللهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ». فَأَتَيْتُ أُنَيْسًا فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. قَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ[31]، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَأَتَيْنَا أُمَّنَا، فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَاحْتَمَلْنَا[32] حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارًا، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ أَيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ، وَقَالَ نِصْفُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَسْلَمْنَا. فَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمُ الْبَاقِي، وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِخْوَتُنَا[33]، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ. فَأَسْلَمُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ»[34].
هاتان الروايتان[35] تشرحان قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه، وهي قصة عجيبة، يتبدَّى لنا فيها بوضوح أن الله ناصر دينه، وبغير الأسباب التي يَعْتَقد فيها عموم الناس، إنما يأتي النصر كثيرًا من حيث لا نحتسب، وسنذكر بعض التعليقات المختصرة على القصة، والواقع أنها تحتاج إلى تحليل كبير لما فيها من الدروس التي لا تنتهي..
أولًا: لا أعتقد أن هناك إنسانًا أبعد فرصة للإسلام من أبي ذر! فهو من قبيلة غفار التي كانت تحترف السرقة وقطع الطريق، وكانوا يفعلون ذلك مع الحجاج؛ بل يفعلونه في الأشهر الحرم؛ كما يقول أبو ذرٍّ عن قبيلته: «وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ[36]». بالإضافة إلى أنه يسكن بعيدًا عن مكة المكرمة، ولا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الكرام؛ فَهُمْ بالنسبة إليه كتاب مغلق، وهو من قبيلة بعيدة جدًّا في النسب عن قريش.. فبدراسة كل العوامل فإن فرصة إسلامه تقترب من الصفر! ومع ذلك رأينا في القصة أنه هو الذي أتى إلى المسلمين وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذهبوا هم إليه، كما أنه صبر طويلًا حتى يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أسلم من اللحظة الأولى التي سمع فيها القرآن، وفوق ذلك صبر على الإيذاء الذي تعرَّض له من أهل قريش سواء قبل إسلامه، أم بعد ذلك، وأخيرًا فقد تحوَّل في دقائق معدودة إلى داعية يُريد حمل الأمانة إلى قبيلته غفار!
إنه مثال عجيب عجيب!
وهذا المثال يفتح لنا آفاقًا هائلة في الدعوة، فمع أن الأصل أننا نتَّجه بدعوتنا أولًا إلى أهل الأخلاق ومكارم الشيم، فإن الآخرين ليسوا بعيدين عن الدين والشريعة؛ بل لعلَّ الفراغ الديني، والخواء النفسي، الذي يُعانون منه يكون دافعًا لهم إلى ترك حياة الإجرام والفساد التي يعيشونها، والسعي إلى حياة جديدة نظيفة في ظلِّ الإسلام، فلا يبخلنَّ داعيةٌ على أحد بدعوته، ولا يظننَّ أحدٌ السوء بأحد من الناس؛ بل علينا البلاغ، أمَّا الهداية فهي على الله عز وجل.
ثانيًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة يبحث عن النصرة، وعن القبيلة التي تمنعه من قريش؛ ولذلك كان دائم السؤال عن قبائل الرجال الذين يدعوهم للإسلام، فلما عرف أن قبيلة أبي ذر رضي الله عنه هي غفار كره ذلك؛ لأنها قبيلة لا يمكن أن تُقَدِّم دعمًا لدعوة أخلاقية في هذا التوقيت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمع أن يكون أبو ذر منتميًا إلى قبيلة أخرى عزيزة وشريفة حتى يُحَقِّقَ مراده من ترك مكة إلى غيرها، ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سرعان ما تناسى الأمر، وتلطَّف مع أبي ذر، وسأله عن طعامه وشرابه، وأرسله مع أبي بكر يأكل ويشرب؛ بل أخبره بقرب هجرته صلى الله عليه وسلم إلى بلدٍ يعتقد أنه يثرب.
ثالثًا: حتى هذه اللحظة لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أنه سيهاجر إلى يثرب على وجه التحديد، إنما فقط رأى في منامه أرضًا ذات نخل، فتوقَّع أن تكون يثرب، ومع ذلك فقد طلب من أبي ذر رضي الله عنه القيام بالدعوة في قبيلته، وكان هذا أمرًا مهمًّا جدًّا؛ لأنه إضافة إلى استنقاذهم من الشرك ودعوتهم إلى الهُدى، فإن في ذلك تأمينًا لدولته المرتقبة في المدينة في حال انضمام قبيلة غفار إليها، أو على الأقل إذا تمَّ تحييد جانبها فلا تعتدي على يثرب، أو تقطع طريق المهاجرين إليها.
رابعًا: وَضَعْتُ هذه القصة في هذا التوقيت؛ مع أنه ليس هناك تصريح بذلك في الرواية؛ لأنه يبدو من حوادث القصة أنها متأخِّرة في فترة مكة، وأنها في الفترة التي تعرَّض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للإيذاء الشديد من أهلها، ولم يكن هذا إلَّا بعد وفاة أبي طالب، ويدعم هذا الأمر أن عليًّا رضي الله عنه كان كبيرًا ومسئولًا، وكان يستضيف أبا ذر في بيته يومين، ثم أخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته مع خطورة هذا الأمر، ولا يتأتَّى كل ذلك من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا كان طفلًا صغيرًا في أوائل أيام الدعوة، ونحن نعرف أنه أسلم وهو في العاشرة من عمره، وإضافة إلى ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أبا ذر رضي الله عنه أنه قد يهاجر إلى يثرب، فقال له: «إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ، لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِب». وهذه المعلومة لم تكن متوفِّرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أيام الدعوة، كما أن الحدث ليس في آخر أيام مكة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس متأكدًا أنها يثرب؛ بل يغلب على ظنِّه ذلك؛ مما يجعل الأمر تقريبًا في هذا التوقيت من العام العاشر أو قريبًا منه.
خامسًا: مكث أبو ذرٍّ رضي الله عنه في مكة ثلاثين يومًا كاملة ولم يلحظ مسلمًا واحدًا في كل هذه الفترة، وهذا يعني أن جميع المسلمين كانوا يتجنَّبون الحديث عن الإسلام تمامًا في هذه المرحلة؛ وذلك لصعوبة الموقف، وجرأة الكافرين على المسلمين، وقد رأينا اعتداء المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اضطراره إلى قبول إجارة المطعم بن عدي، فما بالنا بغيره من المسلمين، وهم أقل منه شرفًا، وقبائلهم أضعف من بني هاشم. إن هذه الملاحظة لتكشف لنا حقًّا عن مدى التوجُّس والقلق الذي كان يعيشه المسلمون في هذا التوقيت، كما تكشف لنا كذلك عن مدى براعة المسلمين في تجنُّب الدخول في مناظرات أو أعمال تقود إلى صدام لا طاقة لهم به، وقد كان كمونهم وسكونهم إلى الدرجة التي جعلت أبا ذرٍّ رضي الله عنه لا يعرف بوجودهم أصلًا في مكة كما وضح من كلامه.
سادسًا: لم يندفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبر أبا ذر رضي الله عنه بحجم القوَّة الإسلامية في مكة، ولم يشأ أن يكشف أوراق المسلمين لرجل لم يعرفه إلا منذ ساعات قليلة؛ فكان هذا -إضافة إلى ما قلناه في الفقرة السابقة- داعيًا لأبي ذر رضي الله عنه أن يعتقد أنه رابع مسلم في الدنيا؛ وذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما، فكان يقول: «كُنْتُ رُبُعَ الإِسْلامَ؛ أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلاثَةٌ وَأَنَا الرَّابِعُ»[37]. ويصعب أن يكون الأمر على ما ظنَّه أبو ذرٍّ رضي الله عنه؛ فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُعْلَن؛ ومن ثَمَّ يتعرَّض المسلمون للإيذاء إلا بعد زيادة عددهم عن أربعين كما مرَّ بنا؛ ولكن الاحتراز الأمني الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم -إضافة إلى تخفِّي المسلمين- هو الذي أعطى أبا ذر رضي الله عنه هذا الانطباع، ولعلنا لاحظنا كلمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يأمره باتباعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال له مَرَّة: «فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ». أي كأني أتبوَّل؛ وذلك لكي يمنعه من اتباعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان هناك مَنْ يُراقب مِنَ القرشيين، وهذا كله لم يكن إلا متأخِّرًا في مرحلة مكة، ومع أن هذا الإيذاء العام قد حدث قبل ذلك في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة كما مرَّ بنا، فإنه تكرَّر مرَّة ثانية في السنة العاشرة بعد موت أبي طالب، وهي الفترة التي نحكيها الآن.
سابعًا: أسلمت قبيلة غفار على يد أبي ذر رضي الله عنه؛ بل جاءت قبيلة أسلم كذلك مسلمة بدعوته، وهذا يُوَضِّح لنا أن أهمَّ مفاتيح المجموعات التي اشتُهرت بالسرقة والعنف هو رجل منها؛ فهو أقدر على التعامل مع أفرادها، وأقدر على معرفة اللغة التي يفهمونها، وهم لن يستغربوا طريقته ولا منهجه؛ لذلك استطاع أبو ذر رضي الله عنه -بفضل الله- أن يصل إلى قلوبهم جميعًا، فحقَّق في وقت محدود نجاحًا غير متخيَّل؛ إذ أسلم نصف القبيلة في خلال عامين، وأسلم النصف الآخر عند هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يُعَلِّمنا الطريقة التي ينبغي لنا أن نسلكها لإيصال الدعوة إلى هذه المجتمعات المنغلقة؛ حيث لن يكون هذا مُجديًا إلا عن طريق رجل من أبنائها، نصل إليه بالدعوة، ثم يتحرَّك هو خلالها بمعرفته وخبرته.
ثامنًا: يُؤَكِّد أن إسلام أبي ذر رضي الله عنه كان في العام العاشر من البعثة، وليس مبكرًا كما يعتقد بعض المؤرِّخين، أن أبا ذر رضي الله عنه قرَّر أن يُعلن إسلامه وسط أهل مكة، ولم يُنكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان إسلام أبي ذر في أول أيام مكة ما جاز له أن يفعل ذلك، ولقد أشفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإعلان خوفًا عليه؛ لكنه لم يمنعه مطلقًا؛ لأن في الإعلان فوائد جمَّة؛ حيث يُشَجِّع مَنْ كان متردِّدًا في أمر الإسلام، كما أنه يُوَضِّح لزعماء مكة أن الدعوة تنتشر خارج مكة، وهذا قد يدفعهم إلى تغيير موقفهم المتعنِّت من الإسلام قبل أن يفوتهم الركب.
وهكذا كانت قصة إسلام أبي ذرٍّ رضي الله عنه نورًا عظيمًا أضاء كثيرًا من ظلمات العام العاشر، وفَتَحَ لدعوة الإسلام آفاقًا جديدة كان لها أكبر الأثر في نجاح بناء الأمَّة الإسلامية بعد ذلك.