يعد “قاسم أمين” أحد مواطن الجدل الفكري وبؤر الشد والجذب والصراع بين مختلف تيارات الفكر على امتداد وطن العروبة وعالم الإسلام، بالرغم من مضي أكثر من قرن على بدء إسهامه في الحياة الفكرية لأمتنا. فهناك فريق يتعصب لفكره؛ فهو في نظرهم الرائد الذي قاد الحركة الفكرية والاجتماعية لـ”تحرير المرأة” نصف المجتمع، فأخرجها من ظلمات العصور المظلمة إلى نور الحداثة والانفتاح. في حين يرى فريق آخر أن قاسم أمين هو الذي فتح نافذة “التغريب” الأوربي، بما تعنيه من مجافاة روح حضارتنا وتقاليدنا؛ فأورث بفعلته المنازل والحياة الزوجية والناشئة كل أمراض الحضارة الغربية التي يئن ويشكو منها أصحابها. هكذا اختلف الفريقان، وما يزالان، حول طبيعة وأثر الإسهام الفكري لقاسم أمين. بينما نعتقد أن هذا “الاستقطاب الحاد” في تقويم المفكرين وأفكارهم لون من ألوان “العقلية القبلية” يجب أن تتبرأ منه حياتنا الفكرية والاجتماعية، حيث إنه ثمرة من ثمرات “النظرة آحادية الجانب” التي يفتقد أصحابها “شمولية النظر”، والمنهج “الوسطى- المعتدل” في تقويم الفكر، ونقد آثار المفكرين. ليس رائدا لم يكن قاسم أمين أول من نادى ودعا إلى “تحرير المرأة”، بالرغم من شهرة هذه الدعوة ونسبتها إليه؛ فقد سبقه بها وإليها “أحمد فارس الشدياق” (1219هـ=1804م – 1306هـ= 1888م) في صحيفة “الجوائب” أي قبل أن يولد قاسم أمين. كما أن بعض ما نادى به قاسم أمين مثل تقريب الفروق بين حق المرأة وحق الرجل في التعليم مبثوث في مداولات “لجنة تنظيم التعليم” التي كان الخديوي إسماعيل. وفي الإسكندرية كان مولد قاسم أمين، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة “رأس التين” التي كانت تضم أبناء الطبقة الأرستقراطية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، وسكن في حي “الحلمية” الأرستقراطي، وحصل على التجهيزية (الثانوية العامة)، ثم التحق بمدرسة الحقوق والإدارة، ومنها حصل على “الليسانس” سنة (1299هـ = 1881م) وكان أول متخرجيها. وقد اقترب قاسم أمين في تلك الفترة من حلقة “جمال الدين الأفغاني” ومدرسته الفكرية التي ازدهرت بمصر في ذلك التاريخ. عمل قاسم أمين بعد تخرجه فترة قصيرة بالمحاماة، ثم سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا، وهناك انتظم في جامعة “مونبلييه”، وبعد دراسة استمرت أربع سنوات أنهى دراسته القانونية بتفوق سنة (1303هـ=1885م). أثناء دراسته بفرنسا جدد صلاته مع “جمال الدين الأفغاني”، ومدرسته، حيث كان “المترجم” الخاص بالإمام “محمد عبده” في باريس. وفي فرنسا قرأ “قاسم” لكبار مفكري أوربا مثل “نيتشه” و”داروين” و”ماركس”، وحاول الاقتراب من المجتمع الفرنسي، وإقامة الصلات الوثيقة مع نمط حياة الفرنسيين الاجتماعي، غير أن طبيعته الشرقية الخجولة، والانعزالية التي ميزت شخصيته لم تمكناه من الذهاب بعيدًا في هذا المضمار. كما عرف في هذه الفترة الحب والصداقة مع “سلافا” الفرنسية التي زاملته في الجامعة، لكن هذه الصداقة وذلك الحب ظلا “رومانسيين”. في سلك القضاء في صيف (1302هـ=1885م) عاد قاسم أمين إلى القاهرة، وعين بالقضاء في النيابة المختلطة، وكان حينها في الثانية والعشرين من عمره. تدرج قاسم أمين في سلك القضاء، حيث رأس نيابة محافظة “بني سويف”، ثم رأس نيابة “طنطا” (1309هـ=1891م)، وهناك واجهته حادثة مهمة حيث وقع “عبد الله النديم” (1259هـ=1843م – 1314هـ = 1896م) أبرز زعماء“الثورة العرابية” وأصلب قادتها في قبضة البوليس، وذلك بعد اختفاء أسطوري دام تسع سنوات، وجيء به لرئيس النيابة (قاسم أمين) فأكرم لقاءه وأعطاه مالاً من عنده، وهيأ له في محبسه أقصى ما يمكن من ظروف الرعاية والراحة، ثم قرر أن يقوم بالسعي لدى المسئولين في العاصمة كي يفرجوا عنه ويطلقوا سراحه. ونفس الصنيع كرره “قاسم” مع الطلبة المقبوض عليهم في التظاهرات، بل كان يخفي بعضهم حتى يستصدر له العفو من السلطات. وفي (ذو القعدة 1309هـ=يونيو 1892م) عُين نائب قاضٍ في محكمة الاستئناف، ثم رُقي بعد عامين إلى منصب مستشار، وكان يومئذ في الحادية والثلاثين من عمره. ولقد عُرفت عنه طوال مدة عمله بالقضاء دعوته لجعل القضاء المصري والمحاكم الأهلية الوطنية جهة التقاضي والمحاكمة بالنسبة للأجانب الذين يعيشون بمصر، باستثناء أحوالهم الشخصية. نشاطات وكتب امتد نشاط قاسم أمين خارج العمل القضائي، فكتب في صحيفة “المؤيد” عددًا من المقالات دون توقيع، وأصدر كتابه “المصريون” بالفرنسية سنة (1هـ=1894م) يرد به على هجوم الدوق الفرنسي “داركور” على مصر والمصريين، كما أصدر كتابه “تحرير المرأة” سنة (1317هـ=1899م)، و”المرأة الجديدة” سنة (1318هـ=1900م)، وشارك في نشاط “الجمعية الخيرية الإسلامية”. وفي (رمضان 1هـ = أكتوبر 1906م) تولى سكرتارية الاجتماع الذي عُقد بمنزل “سعد زغلول” والذي صدر عنه البيان الشهير الموجه للأمة يدعوها للإسهام في إنشاء الجامعة الأهلية المصرية(جامعة القاهرة)، ثم تولى رئاسة اللجنة بعدما عُين “سعد” وزيرًاللمعارف. وكان آخر أعماله العامة الخطاب الذي ألقاه بالمنوفية عن الجامعة والتعليم الجامعي المرجو لمصر والمصريين. ثم فارق الحياة بعدها بأسبوع في يوم (13 ربيع أول 1326هـ = 15 إبريل 1908م). ساعتان لزوجته كانت حياة قاسم أمين الأسرية متسقة مع مزاجه الهادئ، وروحه الفنانة، وإحساسه الرقيق، فقد تزوج سنة (1هـ = 1884م) من ابنة أمير البحر التركي “أمين توفيق”، وكان يخص زوجته بساعتين من وقته يوميًا وبشكل منتظم، وكان يقضي في مكتبته ثلاث ساعات يوميًّا، وأنجب بنتين هما “زينب” التي أحضر لها مربية فرنسية، و”جلسن” وأحضر لها مربية إنجليزية.