الباب الأول
في تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء
وفي هذا الباب ثلاثة مباحث
(١) المبحث الأول: في حقيقة الخبر
الخبر: كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته.١
وإن شئت فقل: «الخبر هو ما يتحقق مدلوله في الخارج بدون النطق به» نحو: العلم نافع؛ فقد أثبتنا صفة النفع للعلم، وتلك الصفة ثابتة له (سواء تلفظت بالجملة السابقة أم لم تتلفظ)؛ لأن نفع العلم أمر حاصل في الحقيقة والواقع، وإنما أنت تحكي ما اتفق عليه الناس قاطبة، وقضت به الشرائع، وهدت إليه العقول، بدون نظر إلى إثبات جديد.
والمراد بصدق الخبر مطابقته للواقع ونفس الأمر.
والمراد بكذبه عدم مطابقته له.
فجملة «العلم نافع» إن كانت نسبتها الكلامية (وهي ثبوت النفع للعلم) المفهومة من تلك الجملة مطابقة للنسبة الخارجية — أي موافقة لما في الخارج والواقع — «فصدق» وإلا «فكذب» نحو: «الجهل نافع» فنسبته الكلامية ليست مطابقة وموافقة للنسبة الخارجية.٢
(١-١) المقاصد والأغراض التي من أجلها يُلقى الخبر
الأصل في الخبر أن يُلقَى لأحد غرضين: - (أ) إما إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة، إذا كان جاهلًا له، ويسمى هذا النوع «فائدة الخبر» نحو: «الدين المعاملة».
- (ب) وإما إفادة المخاطب أن المتكلم عالم أيضًا بأنه يعلم الخبر، كما تقول لتلميذ أخفى عليك نجاحه في الامتحان وعلمته من طريق آخر: أنت نجحت في الامتحان. ويُسمى هذا النوع: «لازم الفائدة»؛ لأنه يلزمُ في كل خبر أن يكون المخبر به عنده علم أو ظنٌّ به.
وقد يخرج الخبر عن الغرضين السابقين إلى أغراض أخرى تُستفاد بالقرائن ومن سياق الكلام، أهمُّها: - (١) الاسترحام والاستعطاف، نحو: إني فقير إلى عفو ربي.٣
- (٢) وتحريك الهمة إلى ما يلزم تحصيله، نحو: ليس سواء عالم وجهول.
- (٣) وإظهار الضَّعف والخشوع، نحو: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي.
- (٤) وإظهار التحسُّر على شيء محبوب، نحو: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى.
- (٥) وإظهار الفرح بمُقْبِل والشماتة بمُدبِر، نحو: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ.
- (٦) والتوبيخ كقولك للعاثر: «الشمس طالعة».
- (٧) والتذكير بما بين المراتب من التفاوت، نحو: «لا يستوي كسلان ونشيط».
- (٨) والتحذير، نحو: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».
- (٩) والفخر، نحو: «إن الله اصطفاني من قريش».
- (١٠) والمدح كقوله:
فإنك شمسٌ والملوك كواكب
إذا طلعْتَ لم يَبْدُ منهن كوكبُ
وقد يجيء لأغراض أخرى، والمرجع في معرفة ذلك إلى الذوق والعقل السليم.
تمرين
عيِّن الأغراض المستفادة من الخبر في الأمثلة الآتية: - (١) قال تعالى: لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
- (٢) وقال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى.
- (٣) وقال ﷺ: «عدلُ ساعةٍ في حُكومةٍ خَيْرٌ من عبادةِ ستينَ سنة.»
- (٤) وقال: «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله.»
- (٥) ومن خطبة له عليه الصلاة والسلام بمكة حين دعا قومه إلى الإسلام: «إنَّ الرائدَ لا يَكْذِبُ أهلَه، واللهِ لو كَذَبْتُ الناسَ ما كَذَبْتُكم، ولو غَرَرْتُ الناسَ ما غَرَرْتُكم، واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو إني رسولُ اللهِ إليكم حقًّا، وإلى الناس كافَّةً.»
- (٦) وقال الشريف الرَّضِيُّ:
جار الزمان فلا جواد يُرْتجى
للنائبات ولا صديق يشفق
وإذا الحليم رمى بسرِّ صديقه
عمدًا فأولى بالوداد الأحمق
- (٧) وقال المعري:
عرفت سجايا الدهر أما شروره
فنقدٌ وأما خيره فوعود
- (٨) وقال:
رأيت سكوتي متجرًا فلزمته
إذا لم يُفد ربحًا فلست بخاسر
- (٩) وقال أيضًا:
أرى ولد الفتى عبئًا عليه
لقد سعد الذي أمسى عقيما
فإما أن يربِّيه عدوًّا
وإما أن يُخلِّفَهُ يتيما
- (١٠) قال ابن حيوس مادحًا:
بني صالح أقصدْتُمُ من رَمَيْتُمُ
وأحييتم من أم معروفكم قصدا
وذَلَّلْتُمُ صعبَ الزمان لأهله
فذلَّ وقد كان الجماح له وكدا
مناقب لو أن الليالي توشحت
بأذيالها لابيضَّ منهن ما اسودَّا
- (١١) وقال أبو فراس:
صبرت على اللأْواء صَبْرَ ابن حُرَّةٍ
كثير العدا فيها قليل المُساعِدِ
منعتُ حِمى قومي وسُدْتُ عشيرتي
وقلد أهلي غُر هذي القلائدِ
(٢) المبحث الثاني: في كيفية إلقاء المتكلم الخبر للمخاطب
حيث كان الغرض من الكلام الإفصاح والإظهار يجب أن يكون المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض، يشخِّص حالته، ويُعطيه ما يُناسبها.
فحق الكلام أن يكون بقدر الحاجة، لا زائدًا عنها؛ لئلا يكون عبثًا، ولا ناقصًا عنها؛ لئلا يُخلَّ بالغرض، وهو «الإفصاح والبيان».٤ لهذا تختلف صور الخبر في أساليب اللغة باختلاف أحوال المخاطب الذي يعتريه ثلاث أحوال: - أولًا: أن يكون المخاطب خالي الذهن من الخبر، غير متردد فيه، ولا منكر له، وفي هذه الحال لا يُؤكد له الكلام؛ لعدم الحاجة إلى التوكيد، نحو قوله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. ويُسمى هذا الضرب من الخبر «ابتدائيًّا» ويُستعمل هذا الضرب حين يكون المخاطب خالي الذهن من مدلول الخبر؛ فيتمكن فيه لمصادفته إيَّاه خاليًا.٥
- ثانيًا: أن يكون المخاطب مترددًا في الخبر، طالبًا الوصول لمعرفته، والوقوف على حقيقته، فيُستحسن تأكيد٦ الكلام المُلْقَى إليه؛ تقوية للحكم؛ ليتمكن من نفسه، ويطرح الخلاف وراء ظهره، نحو: إنَّ الأمير منتصر. ويُسمَّى هذا الضرب من الخبر «طلبيًّا» ويؤتى بالخبر من هذا الضرب حين يكون المخاطب شاكًّا في مدلول الخبر، طالبًا التثبت من صدقه.
- ثالثًا: أن يكون المخاطب منكرًا للخبر الذي يُراد إلقاؤه إليه، معتقدًا خلافه، تأكيد الكلام له بمؤكد أو مؤكدين أو أكثر، على حسب حاله من الإنكار قوةً وضعفًا، نحو: إنَّ أخاك قادم، أو: إنَّه لقادم، أو: والله إنَّه لقادم، أو: لعمري إنَّ الحق يعلو ولا يُعلى عليه. ويُسمَّى هذا الضرب من الخبر «إنكاريًّا» ويُؤتى بالخبر من هذا الضرب حين يكون المخاطب منكرًا.
واعلم أنه كما يكون التأكيد في الإثبات يكون في النفي أيضًا، نحو: ما المقتصد بمفتقر، ونحو: والله ما المستشير بنادم.
تنبيهات
- الأول: لتوكيد الخبر أدوات كثيرة، وأشهرها: إنَّ، وأنَّ، ولام الابتداء، وأحرف التنبيه، والقسم، ونونا التوكيد، والحروف الزائدة ﮐ «تفَعَّل واستفعل» والتكرار، وقد، وأمَّا الشرطيَّة، وإنَّما، واسمية الجملة، وضمير الفصل، وتقديم الفاعل المعنوي.
- الثاني: يسمى إخراج الكلام على الأضرب الثلاثة السابقة إخراجًا على مقتضى ظاهر الحال.٧وقد تقتضي الأحوال العُدول عن مقتضى الظاهر، ويورد الكلام على خلافه لاعتبارات يلحظها المتكلم (وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة).
- (١) منها: تنزيل العالم بفائدة الخبر، أو لازمها، أو بهما معًا — منزلة الجاهل بذلك؛ لعدم جريهِ على موجب عِلمه، فيُلقَى إليه الخبر كما يُلقى إلى الجاهل به، كقولك لمن يعلم وجوب الصلاة وهو لا يُصلي: «الصلاة واجبة.» توبيخًا على عدم عمله بمقتضى علمه، وكقولك لمن يُؤذي أباه: هذا أبوك.
- (٢) ومنها تنزيل خالي الذهن منزلة السائل المتردد، إذا تقدَّم في الكلام ما يُشير إلى حُكم الخبر، كقوله سبحانه وتعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ فمدخول إنَّ مؤكد لمضمون ما تقدمه؛ لإشعاره بالتردد فيما تضمنه مدخولها، وكقوله سبحانه وتعالى: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لما أمر المولى «نوحًا» أولًا بصنع الفلك، ونهاه ثانيًا عن مخاطبته بالشفاعة فيهم، صار — مع كونه غير سائل — في مقام السائل المتردد.٨هل حكم الله عليهم بالإغراق؟ فأجيب بقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
- (٣) ومنها: تنزيل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، كقول حَجَل بن نَضْلة القيسي (من أولاد عم شَقيق): جاء شَقيق عارضًا رمحه
إن بني عمك فيهم رماح
«فشَقيق» رجل لا ينكر رماح بني عمه، ولكن مجيئه على صورة المعجب بشجاعته، واضعًا رمحه على فخذيه بالعرض وهو راكب أو حاملًا له عرضًا على كتفه في جهة العدو بدون اكتراثه به — بمنزلة إنكاره أن لبني عمه رماحًا، ولن يجد منهم مقاومًا له كأنهم كلهم في نظره عُزْلٌ، ليس مع أحد منهم رمح.
فأكد له الكلام؛ استهزاءً به، خوطب خطاب التفات بعد غيبة؛ تهكمًا به، ورميًا له بالنزق وخرق الرأي.
- (٤) ومنها تنزيل المتردد٩ منزلة الخالي، كقولك للمتردد في قدوم مسافر مع شهرته: «قدم الأمير.»
- (٥) ومنها تنزيل المتردد منزلة المنكر، كقولك للسائل المستبعد لحصول الفرج: «إنَّ الفرج لقريب.»
- (٦) ومنها تنزيل المنكر منزلة الخالي، إذا كان لديه دلائل وشواهد لو تأملها لارتدع وزال إنكاره، كقوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وكقولك لمن يُنكر منفعة الطب: «الطب نافع.»
- (٧) ومنها تنزيل المنكر منزلة المتردد، كقولك لمن يُنكر «شرف الأدب» إنكارًا ضعيفًا: «إنَّ الجاه بالمال إنَّما يصحبك ما صحبك المال، وأما الجاه بالأدب فإنه غير زائل عنك.»
- الثالث: قد يؤكد الخبر لشرف الحكم وتقويته، مع أنه ليس فيه تردد ولا إنكار، كقولك في افتتاح كلام: «إنَّ أفضل ما نطق به اللسان كذا.»١٠
تدريب
بيِّن أغراض الخبر والمقاصد منه فيما يأتي:
(١) قومي هُمُو قتلوا أُمَيْمَ أخي
فإذا رَمَيْتُ يُصيبني سهمي
(٢) قد كنت عُدَّتي التي أسطو بها
ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
(٣) أبا المسك أرجو منك نصرًا على العدى
وآمل عزًّا يخضب البيض بالدم
(٤) كفى بجسمي نُحولًا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
(٥) وأنت الذي ربيت ذا الملك مرضعًا
وليس له أم سواك ولا أبُ
(٦) ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
وبقيتُ في خلف كجِلد الأجرب
(٧) إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوكَ ربِّ كما أَمَرْتَ تضرعًا
فإذا رددتَ يدي فمَن ذا يَرْحَمُ
(٨) ظمئتُ وفي فمي الأدبُ المصفَّى
وضِعْتُ وفي يدي الكنز الشين