في الإطلاق والتقييد
إذا اقتصر في الجملة على ذكر جزأيها «المسند إليه والمسند» فالحكم «مطلق» وذلك حين لا يتعلق الغرض بتقييد الحكم بوجه من الوجوه؛ ليذهب السامع فيه كل مذهب ممكن.
وإذا زيد عليهما شيء مما يتعلق بهما أو بأحدهما فالحكم «مقيد» وذلك حيث يراد زيادة الفائدة وتقويتها عند السامع؛ لما هو معروف من أن الحكم كلما كثرت قيوده ازداد إيضاحًا وتخصيصًا، فتكون فائدته أتم وأكمل، ولو حُذف القيد لكان الكلام كذبًا أو غير مقصود، نحو قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، فلو حُذف الحال وهو «لاعبين» لكان الكلام كذبًا، بدليل المشاهدة والواقع.
ونحو قوله تعالى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ؛ إذ لو حُذف «يكاد» لفات الغرض المقصود، وهو إفادة المقاربة.
واعلم أن معرفة خواص التراكب وأسرار الأساليب وما فيها من دقيق الوضع، وباهر الصنع، ولطائف المزايا — يسترعي لُبك إلى أن التقييد بأحد الأنواع الآتية يكون لزيادة الفائدة وتقويتها عند السامع؛ لما هو معروف من أن الحكم كلما ازدادت قيوده ازداد إيضاحًا وتخصيصًا.
والتقييد يكون بالتوابع، وضمير الفصل، والنواسخ، وأدوات الشرط والنفي، والمفاعيل الخمسة، والحال، والتمييز، وفي هذا الباب جملة مباحث.٢ (١) المبحث الأول: في التقييد بالنعت
أما النعت فيؤتى به للمقاصد والأغراض التي يدل عليها: - (أ) منها: تخصيص المنعوت بصفة تميزه إن كان نكرة، نحو: جاءني رجل تاجر.
- (ب) ومنها: توضيح المنعوت إذا كان معرفة لغرض:
- (١) الكشف عن حقيقته، نحو: الجسم الطويل العريض يشغل حيِّزًا من الفراغ.
- (٢) أو التأكيد، نحو: تلك عشرة كاملة، وأمسِ الدَّابرُ كان يومًا عظيمًا.
- (٣) أو المدح، نحو: حضر سعد المنصور.
- (٤) أو الذم، نحو: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ.
- (٥) أو الترحم، نحو: قَدِم زيد المسكين.
(٢) المبحث الثاني: في التقييد بالتوكيد
أما التوكيد فيؤتى به للأغراض التي يدل عليها، فيكون: - (١) لمجرد التقرير، وتحقيق المفهوم عند الإحساس بغفلة السامع، نحو: جاء الأميرُ الأميرُ.
- (٢) وللتقرير مع دفع توهم خلاف الظاهر، نحو: جاءني الأمير نفسه.
- (٣) وللتقرير مع دفع توهم عدم الشمول، نحو: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ.
- (٤) ولإرادة انتقاش معناه في ذهن السامع، نحو: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ.
(٣) المبحث الثالث: في التقييد بعطف البيان
أما عطف البيان: فيؤتى به للمقاصد والأغراض التي يدل عليها، فيكون: - (أ) لمجرد التوضيح للمتبوع باسم مختص به،٣ نحو: أقسم بالله أبو حفص عمر.
- (ب) وللمدح: كقوله تعالى: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ فالبيت الحرام عطف بيان؛ للمدح.
(٤) المبحث الرابع: في التقييد بعطف النسق
أما عطف النسق، فيؤتى به للأغراض الآتية: - (١) لتفصيل المسند إليه باختصار، نحو: «جاء سعد وسعيد» فإنه أخصر من: «جاء سعد وجاء سعيد»، ولا يعلم منه تفصيل المسند؛ لأن الواو لمطلق الجمع.
- (٢) ولتفصيل المسند مع الاختصار أيضًا، نحو: «جاء نصر فمنصور»٤ أو «ثم منصور» أو «جاء الأمير حتى الجند»؛ لأن هذه الأحرف الثلاثة مشتركة في تفصيل المسند، إلا أن الأول: يفيد الترتيب مع التعقيب، والثاني: يفيد الترتيب مع التراخي، والثالث: يفيد ترتيب أجزاء ما قبله، ذاهبًا من الأقوى إلى الأضعف، أو بالعكس، نحو: «مات الناس حتى الأنبياء».
- (٣) ولرد السامع إلى الصواب مع الاختصار، نحو: «جاء نصر لا منصور» أو: «لكن منصور».
- (٤) ولصرف الحكم إلى آخر، نحو: «ما جاء منصور بل نصر».
- (٥) وللشك من المتكلم أو التشكيك للسامع، أو للإبهام، نحو قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
- (٦) وللإباحة أو التخيير.
- مثال الأول: تعلَّمْ نحوًا أو صرفًا، أو نحو: تعلَّمْ إما صرفًا وإما نحوًا.
- ومثال الثاني: تزوج هندًا أو أختها، أو نحو: تزوج إما هندًا وإما أختها.
(٥) المبحث الخامس: في التقييد بالبدل
أما البدل: فيؤتى به للمقاصد والأغراض التي يدل عليها، ويكون لزيادة التقرير والإيضاح؛ لأن البدل مقصود بالحكم بعد إبهام.
نحو: «حضر ابني علي» في «بدل الكل».
ونحو: «سافر الجند أغلبه» في «بدل البعض».
ونحو: «نفعني الأستاذ علمه» في «بدل الاشتمال».
ونحو: «وجهك بدر شمس» في «بدل الغلط».٥
وذلك لإفادة المبالغة التي يقتضيها الحال.
(٦) المبحث السادس: في التقييد بضمير الفصل
يُؤتى بضمير الفصل لأغراض كثيرة: - (١) منها التخصيص، نحو أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ.
- (٢) ومنها تأكيد التخصيص إذا كان في التركيب مخصص آخر، كقوله تعالى: وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
- (٣) ومنها تمييز الخبر عن الصفة، نحو: «العالم هو العامل بعلمه».
(٧) المبحث السابع: في التقييد بالنواسخ
التقييد بها يكون للأغراض التي تؤديها معاني ألفاظ النواسخ كالاستمرار لحكاية الحال الماضية في «كان».٦
وكالتوقيت بزمن معين في «ظل، وبات، وأصبح، وأمسى، وأضحى».
وكالتوقيت بحالة معينة في «ما دام».
وكالمقاربة في «كاد، وكرب، وأوشك».
وكالتأكيد في «إنَّ وأنَّ».
وكالتشبيه في «كأنَّ».
وكالاستدراك في «لكنَّ».
وكالرجاء في «لعلَّ».
وكالتمني في «ليت».
وكاليقين في «وجد، وألفَى، ودرَى، وعلم».
وكالظن في «خال، وزعم، وحسب».
وكالتحول في «اتخذ، وجعل، وصير».
(٨) المبحث الثامن: في التقييد بالشرط
التقييد به يكون للأغراض التي تؤديها معاني أدوات الشرط؛ كالزمان في «متى وأيان»، والمكان في «أين، وأنى، وحيثما»، والحال في «كيفما». واستيفاء ذلك وتحقيق الفرق بين تلك الأدوات يُذكر في علم النحو.
وإنما يُفرق هنا بين «إنْ، وإذا، ولو» لاختصاصها بمزايا تُعد من وجوه البلاغة.
(٨-١) الفرق بين «إنْ، وإذا، ولو»
الأصل عدم جزم وقطع المتكلم بوقوع الشرط في المستقبل مع «إنْ».
ومن ثمَّ كثُرَ أن تُستعمل «إنْ» في الأحوال التي يندر وقوعها، ووجب أن يتلوها لفظ «المضارع» لاحتمال الشك في وقوعه،٧ بخلاف «إذا» فتُستعمل بحسب أصلها في كل ما يقطع المتكلم بوقوعه في المستقبل، ومن أجل هذا لا تُستعمل «إذا» إلا في الأحوال الكثيرة الوقوع، ويتلوها «الماضي» لدلالته على الوقوع والحصول قطعًا. كقوله تعالى: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فلكون مجيء الحسنة منه تعالى محققًا ذُكر هو والماضي مع «إذا»، وإنما كان ما ذُكر محققًا؛ لأن المراد بها مطلق الحسنة الشامل لأنواع كثيرة: من خِصب، ورخاء، وكثرة أولاد، كما يفهم من التعريف بأل الجنسية في لفظة «الحسنة» ولكون مجيء السيئة نادرًا ذُكر هو والمضارع مع «أن».
وإنما كان ما ذكر نادرًا؛ لأن المراد بها نوع قليل، وهو جدب وبلاء كما يُفهم من التنكير في «سيئة» على التقليل.
ولو: للشرط في الماضي مع الجزم والقطع بانتفائه، فيلزم انتفاء الجزاء. على أن الجزاء كان يمكن أن يقع لو وُجد الشرط، ويجب كون جملتيها فعليتين ماضويتين، نحو: لو أتقنت عملك لبلغت أملك.
وتسمى «لو» حرف امتناع لامتناع، كقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا ونحو: وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ؛ أي انتفت هدايته إياكم بسبب انتفاء مشيئته لها.