طباع البشر ليست على سجية واحدة ، ولا على منوال موحد ، والحياة باتساع آفاقها تحوي أصناف وأصناف من السمات البشرية ، والأنماط الشخصية التي تتوزع على كل فرد على حده .
ومن هذا المنطلق قد تجد في حياتك من يوافقك في كل شيء ، فتتناغم الأرواح وتتآلف القلوب ، طالما كان الإتفاق يسري في حنايا النفس.
وعلى النقيض من ذلك ، قد تتنافر القلوب ، وتتباعد الأرواح ، فيتحول الود إلى جفاء ، والصفاء إلى بغضاء ، طالما كان الإختلاف تتسع هوته كلما أصر كل ذي رأي على رأيه ..!
ليس مطلوباً منك أن تصنع شخصية مكررة طبق الأصل منك أنت ، لك رأيك ولغيرك رأيه الشخصي ، وكلاكما يحتمل الخطأ ، والقاعدة الأصولية تقول : ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) .
لك أن تحترم رأي غيرك ، ولغيرك أن يحترم رأيك بأسلوب حواري ناجح مغلف بتبادل وجهات النظر دون ارتفاع أصوات ، أو محاولة الإقناع الجبرية مع الإحتفاظ برباط الأخوة والمحبة .
نحن للأسف في عالمنا العربي لا نعرف استراتيجية ومنهجية وآداب الإختلاف إلا على نطاق ضيق ..!
لماذا بكل بسهولة ـ إذن ـ يؤدي الإختلاف مع الزوجة فوراً إلى الطلاق ، ومع المدير إلى الفصل ، ومع الصديق إلى القطيعة ؟!.
لماذا يعتبر الزوج إدلاء المرأة برأيها الذي يختلف معه كسر لرجولته وانتقاص من شأنه ؟! .
لماذا عند أدنى خلاف مع المدير يكون مصير الموظف المسكين الفصل من عمله ؟! .
لماذا عندما يحاول الإبن إبداء رأيه مع أبيه ، أو معلمه لا يسمح له بذلك ، بل يعتبرونه إساءة لهم ؛ لأن ذلك السلوك في نظرهم من باب : ( قلة الأدب ) !!! .
لماذا عندما يقع أتفه خلاف مع الصديق يكون العلاج الفعال قطع الأواصر ، ومحو ذلك الصديق من الذاكرة ؟! .
لماذا يكال للأقارب والأباعد الصاع صاعين ، لأدنى اختلاف في وجهات النظر ؟! .
لماذا يقع ذلك التعصب الفكري ، والثقافي لذلك المفكر ، أو الكاتب ، أو الشاعر فنمجدهم ، ونخلع عليهم عبارات المدح والثناء التي لا تخلو من المغالاة ، وتجاوز الحدود وكأنهم نزلوا من السماء أطهار لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ..... ثم الويل كل الويل لمن ينتقدهم أو يبدي وجهة نظره فيهم ... !! .
لماذا يتحول الإختلاف في الرأي إلى عداء وسل للسيوف وحلبة للمصارعة وقاتل ومقتول ؟! .
لماذا لا نتقبل النقد بصدر رحب ، ونقبل النصح ونحترم وجهة نظر الطرف الآخر ؟! .
لماذا نحيط أنفسنا بهالة من النزاهة والقداسة ، وكأن الباطل لايأتينا من بين يدينا ولا من خلفنا ؟!
حينما يحتد النزاع ، وتتسع هوة الخلاف ، وتندلع الألسنة ، وتتطاير العبارات التي لا تليق بمسلم أن ينطق بها ، في هذا الموقف يحسن بأحدهما ، أو بأعقلهما أن يوقف لظى تلك الحرب الضروس ، وينسحب من هذا الجدل العقيم مستشعراً قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ) صحيح الجامع .
في هذه اللحظة التي تهجر فيها الجدال حتى لو كنت محقاً وعلى صواب ، ربما تنعم بتلك العطية الجليلة ، وهي الفوز ببيت في ربض الجنة ، وما أعظمها من بشارة .. !
لقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوسع الناس صدراً لمن يختلف معه ، حليماً ، صبوراً ، صفوحاً ، يتقبل الإساءة ويتجاوز عنها ، بل ويقابل السيئة بالحسنة ، كيف لا ، وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه ، حتى كان قرآناً يمشي على الأرض ...
وكذلك سلفه الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ لم يكن اختلافهم سبب لتفرقهم ؛ لأن قلوبهم أسمى ، وأرفع من أن ينال منها شيء ، ولذلك بشر صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي استهل بطلعته عليهم ، بشره بأنه من أهل الجنة ؛ لأنه لا ينام وفي قلبه غل على مسلم ..
إن الإنتصار للنفس ، وحب الإنتقام ، ورد السيئة بمثلها ليست من أخلاق الإسلام في شيء ، ولو أننا رجعنا إلى تعاليم القرآن ، ونهلنا من معينه الذي لا ينضب ، لما كان حالنا نحن المسلمين هكذا ، لكننا أدرنا ظهورنا وصددنا عن الحق المبين حتى أطعنا الشيطان فزين لنا سوء أعمالنا ، وبذلك فقدنا المرجعية الحقة ، ونسينا أنها مصدر عزنا وسؤددنا وطريق نجاتنا وسر سعادتنا مدى الأزمان .