أن من مسائل العقيدة ما هو من أصول الدين ومنها ما هو من فروعه، وأن من أدلتها ما يفيد القطع واليقين، ومنها ما يفيد الظن الغالب، وعليه فالمسائل التي من فروع الدين ودلالة نصوصها عليها دلالة ظنية؛ هي التي يجوز فيها الاجتهاد، والمراد بالاجتهاد في مسائل العقيدة هو المعنى المقرر في علم أصول الفقه، وهو "بذل الجهد في التعرف على حكم شرعي من مظانه".
كان من العلماء الذين قرروا أن بعض مسائل العقيدة يدخله الاجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728ه)، حيث قال بعد ذكر انقسام مسائل العقيدة في أحكامها التكليفية: "وإذا كانت قد تكون قطعية وقد تكون اجتهادية: سوغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية، وكثير من تفسير القرآن، أو أكثره من هذا الباب؛ فإن الاختلاف في كثير من التفسير هو من باب المسائل العلمية الخبرية لا من باب العملية".
والاجتهاد لا يكون إلا في المسائل الظنية كما هو مقرر عند العلماء. يقول ابن حمدان الحنبلي (ت: 695 ه): "وكل حكم يثبت بدليل ظني فهو اجتهادي إذ لا اجتهاد مع القطع فإن الاجتهاد بذل الوسع في طلب الحكم الشرعي بدليله".
وإذا جاز الاجتهاد في مسائل العقيدة؛ فلا بد من معرفة أن الاجتهاد فيها يتناول أحد ثلاثة أمور كما قاله الدكتور سلطان العميري وهي: أولًا: ثبوت النص، إذ ليس كل نصوص مسائل العقيدة قطعية الثبوت بل يرجع الحكم في بعضها إلى اجتهاد الناظر فيها. وثانيًا: دلالة النص الثابت، فليست دلالات النصوص كلها قطعية بل بعضها ظني وبعضها قطعي، وذلك يرجع أيضًا إلى اجتهاد الناظر فيها. ثالثًا: ومن جهة تحقيق المناط في القضايا الجزئية والنوازل الحادثة، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى جهد عال من العالم لبيان الحكم العقدي وهذا هو الاجتهاد بعينه.
من مسائل العقيدة التي وقع فيها الخلاف نظرًا لوقوع الاجتهاد فيها بعض مشاهد يوم القيامة، ولا شك أن ذلك من مسائل العقيدة المتعلقة بركن من أركان الإيمان، وسبب الخلاف فيها إما الخلاف في ثبوت النص من عدمه، أو في دلالة النص الثابت نفسه. ومن ذلك أيضًا: الخلاف على اسم المحسن والحفي وغيرهما مما نسب إلى الله تعالى، وسبب ذلك: الاجتهاد في دلالة النصوص الوارد في ذلك لأنها نصوص محتملة، كقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] هل يؤخذ منها أن من أسماء الله تعالى الحفي، وغير ذلك.
وقد منع كثير من أتباع المدرسة الكلامية جواز الاجتهاد في بعض مسائل العقيدة، وذلك منهم مبني على أن الأصل في مسائل العقيدة أنها كلها يقينية، واليقين لا اجتهاد فيه. ثم قال بقولهم هذا بعض علماء أهل السنة وأنه لا اجتهاد في مسائل العقيدة، وذلك منهم مبني على مقدمتين اثنتين هما:
المقدمة الأولى: أن مسائل العقيدة محصورة محدودة لا يتصور فيها الاجتهاد، وفي ذلك يقول السمعاني (ت: 489 ه) إن مسائل العقيدة: "محصورة محدودة قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة فإن الله تعالى أمر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم باعتقاد أشياء معلومة لا مزيد عليها ولا نقصان عنها وقد أكملها بقوله {اليوم أكملت لكم دينكم} فإذا كان قد أكمله وأتمه وهذا المسلم قد اعتقده وسكن إليه ووجد قرار القلب عليه فبماذا يحتاج إلى الرجوع إلى دلائل العقل وقضاياه والله أغناه عنه بفضله". وأبرز ما يرد به على هذا التقرير من السمعاني -كما قال العميري- أن التجدد والنوازل واقعة في مسائل العقيدة وتحتاج إلى قدر كبير من النظر فيها، إضافة إلى أن الاجتهاد في مسائل العقيدة ليس مسوغه التجدد والحدوث فقط؛ بل ظنية دلالة بعض النصوص عليها.
المقدمة الثانية: قالوا بأن مسائل العقيدة توقيفية لا يجوز فيها الرأي والاجتهاد، لأنها مأخوذة من الكتاب والسنة لا من الآراء والاجتهاد، وهذا التقرير أيضًا غير صحيح، إذ لا تناقض بين الاجتهاد والقول بتوقيفية المسائل؛ فالاجتهاد في بعض مسائل العقيدة هو نفسه الاجتهاد في بعض أحكام الصلاة والزكاة، والبيع والطلاق، والأيمان والنذور وغيرها، ونصوص تلك المسائل والأحكام كلها توقيفية من عند الله تعالى، وإنما كان الاجتهاد في دلالة تلك النصوص الظنية، وما دام أن جمهور الأصوليين قد قرروا أن الاجتهاد يكون في النصوص الظنية لا القطعية؛ فلمَ التفريق بين نصوص العقيدة الظنية ونصوص الأحكام الفقهية الظنية، والحقيقة إنهما شيء واحد، فكما يقبل الاجتهاد ويستساغ في النصوص الظنية الدالة على الأحكام الفقهية؛ فإنه كذلك يرد ويستساغ في النصوص الظنية الدالة على المسائل العقدية.
وأما الاحتجاج بالقاعدة الفقهية: "لا اجتهاد مع النص"؛ فإن المراد بها -كما قال الزحيلي- الدليل القطعي الواضح المحكم، المانع للاجتهاد، أو المسائل المجمع عليها، سواء في ذلك مسائل الفقه، أو العقيدة، أو غيرها.
وعليه فإن الاجتهاد جائز سائغ في بعض مسائل العقيدة التي ليست من أصول الدين، سواء في إثبات نصوصها، أم في دلالة تلك النصوص.