إن العبدَ السعيد الموفَّق هو من يُقبِل على كتاب ربِّه قراءةً وسماعًا، وحفظًا وتدبرًا وعملًا، والعبد التعيس البائس هو من خلَّف الكتاب وراء ظهره، لا يأتمر بأوامره، ولا ينتهي عن نواهيه، ثم جعل إلهه هواه، هذا وقد ندبنا الله في أكثر من آية إلى تدبُّر كتابه؛ فقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 68]، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]؛ أما بعد:
فحينما أقرأ وِرْدي وأصل إلى خاتمة سورة الجاثية: ﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجاثية: 36، 37]، تصيبني الدهشة والتأثر بهذه الكلمات البديعة التي يمدح الله فيها نفسه، والتي تأخذ بالألباب والعقول؛ قال عنها ابن عاشور: وبهذه الخاتمة آذن الكلام بانتهاء السورة، فهو من براعة خواتم السور.
يثبت الله في هاتين الآيتين أن له الحمدَ وحده؛ لكونه الرب لكل العالمين، ويثبت أنه وحده الذي ينبغي أن يتصف بالكبرياء؛ فهو العزيز الحكيم سبحانه.
قال السعدي رحمه الله: "﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ﴾ [الجاثية: 36] كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، ﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الجاثية: 36]؛ أي: له الحمد على ربوبيته لسائر الخلائق؛ حيث خلقهم وربَّاهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، ﴿ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الجاثية: 37]؛ أي: له الجلال والعظمة والمجدُ.
فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال، ومحبته تعالى، وإكرامه، والكبرياء فيها عظمته وجلاله، والعبادة مبنية على ركنين؛ محبة الله، والذل له، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه.
﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ [الجاثية: 37] القاهر لكل شيء، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ [الجاثية: 37] الذي يضع الأشياء مواضعها، فلا يشرع ما يشرعه إلا لحكمة ومصلحة، ولا يخلق ما يخلقه إلا لفائدة ومنفعة".
لكن ما مناسبة ذكر اختصاص الله بالحمد والكبرياء في نهاية هذه السورة؟
قال الألوسي: "تفريع على ما احتوت عليه السورة الكريمة، وقد احتوت على آلاء الله تعالى وأفضاله عز وجل، واشتملت على الدلائل الآفاقية والأنفسية، وانطوت على البراهين الساطعة، والنصوص اللامعة، في المبدأ والمعاد"، ويجيبك ابن عاشور قائلًا: "الفاء لتفريع التحميد والثناء على الله تفريعًا على ما احتوت عليه السورة من ألطاف الله، فيما خلق وأرشد، وسخَّر وأقام من نُظُمِ العدالة، والإنعام على المسلمين في الدنيا والآخرة، ومن وعيد للمعرضين واحتجاج عليهم، فلما كان ذلك كله من الله، كان دالًّا على اتصافه بصفات العظمة والجلال، وعلى إفضاله على الناس بدين الإسلام، كان حقيقًا بإنشاء قصر الحمد عليه، فيجوز أن يكون هذا الكلام مرادًا منه ظاهر الإخبار، ويجوز أن يكون مع ذلك مستعملًا في معناه الكنائي؛ وهو أمر الناس بأن يقصروا الحمد عليه، ويجوز أن يكون إنشاء حمد لله تعالى وثناء عليه، وكل ما سبقه من آيات هذه السورة مقتضٍ للوجوه الثلاثة؛ ونظيره قوله تعالى: ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 45] في سورة الأنعام".
هل للآيتين نظائرُ في القرآن الكريم؟
يجيبك الشنقيطي رحمه الله قائلًا: "قوله تعالى: ﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الجاثية: 36]، أتبع الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة حمده جل وعلا بوصفه بأنه رب السماوات والأرض ورب العالمين، وفي ذلك دلالة على أن رب السماوات والأرض، ورب العالمين مستحقٌّ لكل حمدٍ، ولكل ثناء جميل.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات أُخَرَ:
• كقوله تعالى في سورة الفاتحة: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2].
• وقوله تعالى في آخر الزمر: ﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75].
قوله تعالى: ﴿ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجاثية: 37]، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن له الكبرياء في السماوات والأرض، يعني أنه المختص بالعظمة والكمال، والجلال والسلطان في السماوات والأرض؛ لأنه هو معبود أهل السماوات والأرض، الذي يلزمهم تكبيره وتعظيمه وتمجيده، والخضوع والذل له.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينًا في آيات أُخَرَ؛ كقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ [الزخرف: 84، 85].
فقوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾ [الزخرف: 84] معناه أنه هو وحده الذي يُعظَّم ويُعبَد في السماوات والأرض، ويُكبَّر ويُخضَع له ويُذَلُّ.
فقوله: ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الروم: 27] معناه أن له الوصف الأكمل، الذي هو أعظم الأوصاف وأكملها وأجلُّها في السماوات والأرض.
وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما، أسكنته ناري)).
ينطلق صوت التحميد يعلن الربوبية المطلقة في هذا الوجود؛ سمائه وأرضه، وإنسه وجِنِّه، وطيره ووحشه، وسائر ما فيه ومَن فيه، فكلهم في رعاية ربٍّ واحد، يُدبِّرهم ويرعاهم، وله الحمد على الرعاية والتدبير.
وينطلق صوت التمجيد يعلن الكبرياء المطلقة لله في هذا الوجود؛ حيث يتصاغر كل كبير، وينحني كل جبار، ويستسلم كل متمرد للكبرياء المطلقة في هذا الوجود.
ومع الكبرياء والربوبية العزةُ القادرة، والحكمة المدبرة، وهو العزيز الحكيم، والحمد لله رب العالمين.
قال ابن عاشور مبينًا شيئًا من بلاغة الآيتين في سبب تقديم (لله)، ووصف الله برب الأرض ورب السماوات: وتقديم ﴿ لِلَّهِ ﴾ لإفادة الاختصاص؛ أي الحمد مختص به الله تعالى؛ يعني: الحمد الحق الكامل مختص به تعالى، كما تقدم في سورة الفاتحة.
وإجراء وصف ﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ ﴾ على اسمه تعالى إيماء إلى علة قصر الحمد على الله، إخبارًا وإنشاءً تأكيدًا لما اقتضته الفاء في قوله: ﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ﴾، وعطف ﴿ وَرَبِّ الأَرْضِ ﴾ بتكرير لفظ (رب)؛ للتنويه بشأن الربوبية لأن رب السماوات والأرض يحق حمده على أهل السماء والأرض، فأما أهل السماء فقد حمدوه؛ كما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ [الشورى: 5]، وأما أهل الأرض، فمن حمده منهم فقد أدى حق الربوبية، ومن حمد غيره وأعرض عنه، فقد سجَّل على نفسه سمة الإباق، وكان بمأوى النار محل استحقاق.
لماذا أتبعها بوصف رب العالمين؟
ثم أتبع بوصف ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾؛ وهم سكان السماوات والأرض؛ تأكيدًا لكونهم محقوقين بأن يحمدوه لأنه خالق العوالم التي هم منتفعون بها، وخالق ذواتهم فيها كذلك.
هل الله ينتفع بحمد عباده؟
وعقب ذلك بجملة: ﴿ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الجاثية: 37]؛ للإشارة إلى أن استدعاءه خلقَه لحمده، إنما هو لنفعهم وتزكية نفوسهم؛ فإنه غني عنهم كما قال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: ، 57].
وتقديم المجرور في ﴿ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ ﴾ مثله في ﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ﴾، والكبرياء: الكبر الحق الذي هو كمال الصفات، وكمال الوجود.
لماذا ختم الآية بالعزيز الحكيم؟
ثم أتبع ذلك بصفتي العزيز الحكيم؛ لأن العزة تشمل معاني القدرة والاختيار، والحكمة تجمع معاني تمام العلم وعمومه.