الإذن بالقتال، وبداية الصدام مع قريش، وعدَّة غزوات وسرايا:
كان من المتوقَّع للدولة الجديدة أن يكون لها أعداء كثيرون؛ هذا يحدث مع كلِّ الدول الناشئة، ولكنَّه يحدث بصورةٍ أكبر مع الدول العقائديَّة كدولة الإسلام؛ الأسباب وراء ذلك ثلاثة؛
الأوَّل هو أنَّ الدولة العقائديَّة لا تقوم على أساسٍ قبليٍّ أو جغرافي، وبالتالي يمكن أن تضمَّ بين أفرادها، وفي حدودها، عددًا لا نهائيًّا من البشر والبلاد بتنوُّعاتهم كافَّة، وهذا يعني أنَّها قابلةٌ للتوسُّع بشدَّة، وهذا يُخيف أعداءها.
السبب الثاني هو أنَّ العقيدة هي أسمى ما يمتلك الإنسان، وستكون حرب هذه الدولة شرسة؛ لأنَّ أفرادها سيُدافعون عن عقيدتهم ولو ذهبت أنفسهم وأموالهم.
والسبب الثالث أنَّ الدولة العقائديَّة لا تملك تغيير شريعتها وقانونها لتُرْضِي أعداءها؛ بل لا يملك قائدُها نفسُه -وإن كان رسولًا- أن يخالف أمر ربِّه؛ قال تعالى على لسان نبيِّه ﷺ: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: 15]، فهذا الانقياد الكامل للمنهج الربَّاني يجعل القوى العالميَّة المختلفة متخوِّفة من هذا الكيان العقائدي الجديد؛ لأنَّها لا تستطيع أن تلتقي مع أفراده في منتصف الطريق. لهذا كلِّه كان من المتوقَّع أن يقوم أعداء الدولة بحروبٍ شرسةٍ ضدَّ الكيان الجديد؛ لذا وجب أن يكون هناك تشريعٌ جديدٌ لمجابهة الظروف الراهنة.
لم يكن مسموحًا للمسلمين بالقتال في العهد المكي كلِّه، ولكن الآن، وفي ظلِّ التطوُّرات الجديدة أَذِنَ اللهُ تعالى للمسلمين أن يُقاتلوا مَنْ قاتلهم؛ كان هذا الإذن في أوَّل العهد المدني، وذلك حين نزل قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39].
كان العدوُّ الرئيس المعلَن لدولة الإسلام هو قبيلة قريش، وكان الدستور الإسلامي المتمثِّل في صحيفة المدينة يُصرِّح بذلك؛ ولكن هذا لا يمنع أنَّ هناك أعداءً آخرين متوقَّعين؛ ولكنَّهم قد يقاتلون المسلمين في مراحل لاحقة؛ يشمل هؤلاء الأعداء مشركي المدينة بقيادة عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول، ويهود المدينة، وبعض القبائل العربيَّة الأخرى غير قريش، كما يشمل القُوَى العالميَّة التي لن ترضى عن دولة عقائديَّة في المدينة، وهذه القُوَى في الأساس هي فارس والروم.
بالنسبة إلى مشركي المدينة فكان خطرهم محدودًا، ولقد حدثت منهم فتنةٌ مؤقَّتةٌ عندما استجاب ابن سلول لضغط قريش، وحاول أن يطرد المسلمين من البلد بالقوَّة؛ لكنَّ المحاولة فشلت أمام حكمة رسول الله ﷺ في التعامل مع الأمر، واتِّجاهه ﷺ إلى تسكين النفوس، ومنع الحرب الأهليَّ
وأمَّا اليهود -فلجبنهم- فقد آثروا أن يتجنَّبوا الحرب، وإن كانوا راغبين فيها، فاتَّجهوا إلى جانب الكيد الخفي، والمؤامرات غير المعلنة، واستخدموا كلَّ ذكائهم في محاولة تشكيك الناس في نبوَّة الرسول ﷺ، وفي القرآن الكريم؛ بل بلغ أذاهم مداه عندما تعدَّوْا على الله تعالى بوصفه بالفقر وغير ذلك من صفات النقص؛ ومع ذلك فقد وسَّع الرسول ﷺ صدره في التعامل معهم، وآثر ألَّا يدخل في حروبٍ تُشَتِّته عن حرب عدوِّه الرئيس قريش؛ خاصَّةً أنَّه كان يتمنَّى أن لو آمن اليهود؛ حيث إنَّهم سيكونون عندئذٍ إضافةً مهمَّةً للأمَّة الإسلاميَّ
لم تكن قريشٌ منتظرةً لقيام الدولة حتى تُحارب المسلمين؛ إنَّما «بدأتهم» بالحرب منذ سنوات؛ تعدَّى زعماء قريش على المسلمين بالإيذاء الجسدي والمعنوي، وفتنوهم في دينهم، وقتلوا منهم بعضهم، وصادروا أموالهم، واستولوا على ديارهم، وباعوها وأكلوا ثمنها، واضطرُّوهم إلى ترك بلدهم والهجرة منها؛ تارةً إلى الحبشة، وأخرى إلى المدينة. وبعد الهجرة إلى المدينة منعوهم من العمرة إلى البيت الحرام المفتوح لعامَّة العرب والناس، وراسلوا ابن سلول في المدينة ليطرد المسلمين منها. لم يترك القرشيُّون بذلك خيارًا أمام المسلمين، إنَّما ألزموهم إلزامًا بحربهم.
كان أمام الرسول ﷺ خيارًا من ثلاثة في حربه مع قريش؛ إمَّا أن ينتظرهم في المدينة، وهذا سيجعل مجريات الحرب بيد قريشٍ لا بيده، وإمَّا أن يغزو مكة، وهذا ليس في طاقته في هذه المرحلة، وإمَّا أن يترصَّد قوافل قريش المسافرة بين مكة والشام؛ حيث إنَّها تمرُّ على المدينة؛ هذا الخيار الأخير يبدو منطقيًّا لأنَّه في طاقة المسلمين، ويُحقِّق ضربةً اقتصاديَّةً موجعة لمشركي مكة، ويردُّ شيئًا من الأموال المسلوبة من المسلمين، ويُحقِّق نصرًا يرفع معنويَّات المسلمين وهم في أوَّل عهدهم بالجيش والدولة.
خرج الرسول ﷺ بنفسه لحرب قوافل قريش في عدَّة مرَّات، واصطلح المؤرِّخون على تسمية المعركة التي يخرج فيها الرسول ﷺ بنفسه بالغزوة، وأخرج الرسول ﷺ كذلك جيوشًا بقيادة بعض الصحابة، ولم يخرج فيها، وهذه كانت تُعْرَف بالسرايا.
في الفترة من رمضان من السنة الأولى من الهجرة إلى رجب من السنة الثانية قام الجيش المسلم بتسع عمليَّاتٍ عسكريَّة؛ كلها ضدَّ قريش؛ أربع غزوات وخمس سرايا، وكانت على النحو التالي: سريَّة سِيف البحر، في رمضان من السنة الأولى للهجرة، بقيادة حمزة بن عبد المطلب، ثم سريَّة رابغ، في شوال، بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب، فسريَّة الخرَّار، في ذي القعدة، بقيادة سعد بن أبي وقاص، ثم غزوة الأبواء (ودَّان)، في صَفَر من السنة الثانية للهجرة، بقيادة الرسول ﷺ، ثم غزوة بواط في ربيع الأوَّل، فغزوة سَفَوان (بدر الأولى) في ربيع الأوَّل أيضًا، ثم غزوة العُشيرة في جُمادى الأولى، ثم سريَّة جُهَيْنَة في رجب، بقيادة سعد بن أبي وقاص، وأخيرًا سريَّة نخلة في رجب -أيضًا- بقيادة عبد الله بن جحش.
في كلِّ هذه المعارك السابقة كان الجيش في معظمه، وأحيانًا كلُّه، من المهاجرين، ولم يظهر الأنصار في هذه المعارك إلَّا على سبيل الاستثناء، وكان هذا لأسبابٍ كثيرة؛ ولكن يبقى أهمُّها هو عدم إحراج الأنصار بالحرب خارج المدينة؛ لأنَّ عهدهم مع رسول الله ﷺ في بيعة العقبة الثانية كان يقضي بالدفاع عنه في المدينة لا في خارجها؛ كانت ثمانٍ من هذه المعارك التسع هجوميَّةً من المسلمين، ولم يَغْزُ المشركون المدينةَ إلَّا في غزوة سفوان فقط.
ومع كثرة هذه العمليَّات العسكريَّة فإنَّ القتال الفعلي لم يحدث إلَّا في العمليَّة الأخيرة فقط؛ أعني سريَّة نخلة، وكانت لصالح المسلمين؛ حيث قتلوا رجلًا من المشركين، وأسروا اثنين، وغنموا القافلة، وكانت ضربةً موجعةً لقريش، وتوقَّع الجميع أن يعقبها تصعيدٌ كبير، وهو ما كان بعد ذلك في غزوة بدر الكبرى.
فرض القتال، وتغيير القبلة، وفرض صيام رمضان:
في شهري رجب وشعبان من السنة الثانية من الهجرة أنزل الله تعالى ثلاثة تشريعات كبيرة كان لها آثارٌ مهمَّةٌ على مسار الأحداث.
كان التشريع الأوَّل هو فرض القتال على المسلمين، وهو يختلف عن التشريع السابق الذي «يأذن» للمسلمين بالقتال إن أرادوا، فهذا التشريع الجديد «يُلْزِم» المسلمين بقتال مَنْ قاتلهم، وذلك حتى لا تهتزُّ هيبة الدولة، ولا تُنْتَهك الحقوق؛ كان هذا الفرض بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 190]، وبقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216].
أمَّا التشريع الثاني فكان تغيير القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، وهذا أحدث لغطًا كبيرًا في الجزيرة العربيَّة، ونشط اليهود في إثارة الفتنة وإحداث البلبلة، واتِّهام المسلمين بالتردُّد في شأن القبلة، ولم يفقهوا أنَّ الأمر كلَّه بيد الله، وردَّ الله عليهم بقوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142]. ثبت المسلمون في هذه الفتنة، وتوجَّهوا إلى القبلة الجديدة دون تردُّد، وكانوا مثالًا للطاعة لله ورسوله ﷺ، ومدحهم الله تعالى في الآيات نفسها التي شَرَّعَت القبلة الجديدة بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].
أمَّا التشريع الثالث فكان لا يقلُّ صعوبةً عن سابقَيْه، وهو فرض صيام شهر رمضان كلِّه، وكان المفروض على المسلمين في العام الأوَّل من الهجرة هو صيام يومٍ واحدٍ فقط، وهو يوم عاشوراء، فصار الصيام الفرض شهرًا كاملًا، ومن جديد كانت استجابة المسلمين رائعة، ولم تشهد الفترة أيَّ تردُّدٍ من المؤمنين في طاعة الله ورسوله ﷺ.
كان من الواضح أنَّ المسلمين -بعد النجاح في الاستجابة لأمر الله في هذه التشريعات الثلاثة- مقبلون على أمرٍ كبيرٍ يحتاج إلى تربيةٍ وإعداد، وكان هذا الأمر هو غزوة بدر الكبرى[1].
[1] انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص350- 355.