بعض الطاعنين في خلافة عثمان يعتقد أن اختيار عثمان للخلافة كان عكس الاتِّجاه العام للمسلمين عند استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن هناك عشرة أسباب تجعل اختيار عثمان للخلافة ليس مفاجِئًا للمسلمين.
أولًا: توقُّع عمر عند موته: قال عمر: ثُمَّ إِنَّ قَوْمَكُمْ إِنَّمَا يُؤَمِّرُونَ أَحَدَكُمْ أَيُّهَا الثَّلاثَةُ؛ لَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَلا تَحْمِلْ ذَوِي قَرَابَتِكَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ يَا عُثْمَانُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ فَلا تَحْمِلَنَّ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ يَا عَلِيُّ فَلا تَحْمِلَنَّ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ.
ثانيًا: طلحة بن عبيد الله اختار عثمان.
ثالثًا: عملية سؤال الناس بعد موت عمر كانت تتجه بوضوح لناحية عثمان، إلى درجة قول عبد الرحمن بن عوف: يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ
رابعًا: المسلمون يتوقَّعون خلافة عثمان قبل إصابة عمر أصلًا: فقد كان عمر رضي الله عنه في أواخر حياته يريد أن يطمئنَّ على حال الناس بعده، فسأل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن الشَّخص الذي يتحدَّث المسلمون عن خلافته له. عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلَنِي عُمَرُ رضي الله عنه: مَنْ تَرَى قَوْمَكَ مُؤَمِّرِينَ بَعْدِي؟ قُلْتُ: رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه[1]. وعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، وهو من كبار التابعين، قَالَ: «حَجَجْتُ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ رضي الله عنه فَلَمْ يَكُونُوا يَشُكُّونَ أَنَّ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِهِ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه»[2]. ربَّما كان ذلك لمعرفة المسلمين أنَّه التالي في الفضل بعده بلا جدال، وربَّما لأنَّ عمر رضي الله عنه كان يُقَرِّبه ويُجِلُّه، وكان من أقرب الناس إليه في الشُّورى، وبذا كان على درايةٍ تامَّةٍ بأحوال الدولة، وأمور الرَّعيَّة.
خامسًا: موقف الأمصار، وموقف عبد الله بن مسعود كمثال: عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه سَارَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكُوفَةِ ثَمَانِيًا حِينَ قُتِلَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ مَاتَ فَلَمْ نَرَ نَشِيجًا أَكْثَرَ مِنْ نَشِيجِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنَّا اجْتَمَعْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ نَأْلُ عَنْ خَيْرِنَا ذَا فُوقٍ[3]، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه، فَبَايِعُوهُ. فَبَايَعَهُ النَّاسُ»[4].
سادسًا: عثمان أعظم المسلمين الأحياء بعد موت عمر بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهَذِهِ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ ثُمَّ رُفِعَتْ»[5]. وفي رواية فضائل الصحابة لأحمد: ثُمَّ وُضِعَ عُثْمَانُ وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فَرَجَحَ الْمِيزَانُ، ثُمَّ رُفِعَ».
سابعًا: الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى ترتيب عثمان رضي الله عنه في الخلافة بعد أبي بكر وعمر: عن جَابِرِ بْنِ عبد الله رضي الله عنهما، أنَّه كان يُحدِّث، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُرِيَ اللَّيْلَةَ[6] رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ[7] بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ». قال جابر رضي الله عنه: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا تَنَوُّطُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم[8]. وعن سَمُرَةَ بْنِ جُندُبٍ رضي الله عنه: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، «إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دَلْوًا دُلِّيَ مِنَ السَّمَاءِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا[9] فَشَرِبَ شُرْبًا ضَعِيفًا[10]، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ[11]، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَانْتَشَطَتْ[12]، وَانْتَضَحَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ»[13].
ثامنًا: كان المسلمون يريدون خلافة عثمان بعد أبي بكر مباشرة: قال ابن حبَّان: "قَالَت عَائِشَة: أَتُرِيدُ أَن تعهد إِلَى النَّاس عهدًا؟ قَالَ: نعم، قَالَت: فَبيِّن للنَّاس حَتَّى يعرفوا الْوَالِي بعْدك، قَالَ: نعم، قَالَت عَائِشَة: إِن أَوْلى النَّاس بِهَذَا الْأَمر بعْدك عمر، وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أبي بكر: إِنَّ قُريْشًا تحب ولَايَة عُثْمَان بْن عَفَّان وَتبْغض ولَايَة عمر لغلظه...".
تاسعًا: كان أبو بكر نفسه يريد عثمان لو لم تصل الخلافة لعمر: ثمَّ دَعَا عُثْمَان بْن عَفَّان فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه أَخْبرنِي عَن عمر، فَقَالَ: أَنْت أخبر بِهِ، فَقَالَ أَبُو بكر: فعلي ذَلِك، قَالَ: إِنَّ علمي أَن سَرِيرَته خيرٌ من علانيته وَأَن لَيْسَ فِينَا مثله، قَالَ: يَرْحَمك اللَّه يَا أَبَا عَبْد اللَّه، لَا تذكر مِمَّا ذكرت لَك شَيْئا، قَالَ: أفعل، فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: لَو تركتُه مَا عدوتُك...
عاشرًا: أحاديث الإشارة إلى خلافة عثمان رضي الله عنه كثيرة، وكان كبير السِّن، فولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد تُبْعِد الخلافة عنه، وهو مخالف للإشارات النبوية، ومن ثمَّ توقَّع المسلمون الخلافة له ليقينهم من تحقُّق نبوءات الرسول صلى الله عليه وسلم. لهذه الأمور العشرة لم يكن اختيار عثمان خليفةً مفاجِئًا للمسلمين، بل كان هو الأصل عندهم[14].
[1] ابن شبة: أخبار المدينة النبوية، 3/148، وقال عبد الله الدويش: إسناده صحيح. وقال العمري: سند صحيح. انظر: أكرم ضياء العمري: عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين، ص 58.
[2] ابن أبي شيبة: المصنف في الأحاديث والآثار، 21/172. بسند صحيح كما ذكر العمري. انظر: عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين، ص 58.
[3] «ذا فُوق»: أي السَّهم تامُّ الصناعة.
[4] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/46، وابن شبة: أخبار المدينة النبوية، 3/174، وقال عبد الله الدويش: صحيح، رواه ابن سعد في الطبقات وإسناده حسن. والطبراني: المعجم الكبير، 9/169 (8855)، وابن عساكر: تاريخ دمشق، 39/214.
[5] أحمد (5469)، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 9/58، 59.
[6] أُرِيَ اللَّيْلَةَ؛ أَيْ أَبْصَرَ فِي مَنَامِهِ.
[7] نِيطَ؛ أَيْ عُلِّقَ.
[8] أبو داود: كتاب السنة، باب في الخلفاء، (4636)، وأحمد (14863)، وابن حبان (6913)، والحاكم (4551). وقال الساعاتي: سنده حسن. انظر: الساعاتي: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 17/221.
[9] العَراقي: أعواد يخالف بينها، ثم تُشد في عُرى الدلو، ويعلق بها الحبل، واحدتها عُرْقُوة.
[10] إشارة إلى قِصَر مدَّة خلافته.
[11] تضلَّع: استوفى الشرب، وهذا دلالةٌ على طول مدَّة خلافته.
[12] انتشطت أي اضطربت.
[13] أبو داود: كتاب السنة، باب في الخلفاء، (4637)، وأحمد (20255)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله ثقات. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 7/180، والطبراني: المعجم الكبير، (6981).