أساسيات في الفكر الإسلامي الخاص ببناء الرسول لدولته في المدينة
أساسيات في الفكر الإسلامي الخاص ببناء الدولة:
برزت عدَّة أمورٍ عند بناء الرسول ﷺ لدولته في المدينة، أوضحت الفكر الإسلامي في هذا الشأن، وكان هذا الفكر يتوافق أحيانًا مع بعض الأفكار العالميَّة، القديمة أو الحديثة، ويختلف معها تمامًا في أحيان أخرى، وفي الجملة كان هذا الفكر بهذه الصورة، وهذه التفاصيل خاصًّا بهذه الأمَّة الجديدة؛ أمَّة الإسلام.
كان من أبرز هذه الأمور اهتمام الرسول ﷺ بتشجيع المسلمين على بناء الدولة وتقويتها في الوقت الذي يُحَفِّزهم فيه تمامًا على الزهد في الدنيا وعدم التعلُّق بها! كانت هذه معادلةً شاقَّةً جدًّا؛ إذ يبدو التعارض بين الأمرين؛ كان منهج رسول الله ﷺ في هذا الشأن يعتمد على عدَّة محاور؛ منها كثرة الكلام على الآخرة، وتعظيم شأن الجنَّة والنار في عيون الشعب، ومنها توجيه نيَّات الناس إلى الله تعالى وهم يقومون بأعمال الدنيا؛ كالوظيفة، والقتال، والزواج، والمعاملات، وغير ذلك من أمور الدنيا. ومنها ضرب المثل الأعلى للمسلمين في مسألة الزهد في الدنيا، وكان هذا يتطلَّب أن يعيش الرسول ﷺ -مع كونه قائد الدولة كلِّها- حياة تقشُّفٍ كاملة، ويزهد تمامًا في متاع الدنيا، وهكذا في الواقع كانت حياته، وما أكثر ما كان يُعْطِي وهو محتاج، ويُطْعِم وهو جائع! في الواقع كان معظم المسلمين يعيشون حياةً أرغد من تلك التي يعيشها القائد القدوة ﷺ! يقول عمر رضي الله عنه: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي، مَا يَجِدُ دَقَلًا[1] يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ»[2]!
من الأمور المهمَّة -أيضًا- أنَّ هذا الزهد في الدنيا لم يمنع الرسول ﷺ من الاهتمام ببناء اقتصاد دولته، وكان هذا عن طريق تشجيع أفراد الشعب كافَّة على العمل والإنتاج، وكان عن طريق بناء السوق الإسلامي، وتشجيع تنميته، بالإضافة إلى حثِّ المسلمين على كفاية المحتاجين، وتقليل العبء على الدولة. -أيضًا- حرص رسول الله ﷺ على توفير الماء لشعبه، وكان ذلك عن طريق تحميس الصحابة على شراء بئر رومة، وهو بئرٌ عظيمٌ يكفي لسدِّ احتياجات المسلمين، وقد اشتراه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ووهبه للمسلمين، فكان أحد الأوقاف المهمَّة التي أسهمت في دعم الدولة.
أيضًا سعى رسول الله ﷺ لتكثير عدد المسلمين في المدينة لضبط التركيبة السكانيَّة بالطريقة التي تكفل للمسلمين الاستقرار في دولتهم الجديدة؛ لم يسلك الرسول ﷺ طريق العنف الذي أَلِفَته الإمبراطوريَّات العالميَّة آنذاك -أو بعد ذلك- في إجبار الشعوب على اعتناق دين الغزاة وعقيدتهم لكي تزيد نسبتهم قهرًا، ويتمكنون بذلك من السيطرة على البلاد؛ إنَّما سلك منهجًا إسلاميًّا صرفًا ناجحًا كان من نتيجته أن تحوَّلت المدينة إلى الإسلام في غضون سنواتٍ قليلة، وزاد سكانها بشكلٍ لم تعهده من قبل.
كان هذا المنهج النبوي يشمل الدعوة إلى الإسلام بالتي هي أحسن، وهذا كان له أعظم الأثر؛ إذ إنَّ كلَّ فردٍ ينضمُّ إلى طائفة المسلمين عن طريق الإسلام يُنْقِص من الطوائف الأخرى بالقدر نفسه، وهذا يُغيِّر الديموجرافيَّة السكانيَّة بشكلٍ حاسم؛ وكان المنهج النبويُّ يشمل -أيضًا- استقدام كلِّ مهاجرٍ لأهله الذين تركهم في مكة. فعل ذلك المسلمون وفعله رسول الله ﷺ نفسه؛ فقد استقدم زوجته سودة بنت زمعة، واستقدم -أيضًا- زوجته عائشة بنت الصديق، ولم يكن قد بنى بها بعد، وجاء معهما كذلك ابنتاه أم كلثوم وفاطمة، أمَّا زينب فقد بقيت مع زوجها أبي العاص بن الربيع، وكان ما زال على شِرْكِه، ولم يكن الزواج من المشركين محرَّمًا آنذاك، وأمَّا رقيَّة فكانت في المدينة بالفعل، وقد هاجرت منذ أوَّل العهد المدني مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه.
من الأمور التي زادت من عدد المسلمين -أيضًا- فرض الهجرة على كلِّ القادرين من المسلمين من أهل مكة، ولم يُعْذَر في البقاء في مكة إلَّا المستضعفين فقط؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ` إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ` فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا ` وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 97-100]. يقول عبد الله بن عباس تعليقًا على الآية: «كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ؛ أَنَا مِنَ الوِلْدَانِ وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ»[3].
كانت الهجرة -كما بيَّنَّا- فرضًا على المسلمين القادرين من أهل مكة؛ لكنَّها كانت على الخيار للمسلمين من القبائل غير المكيَّة، ومع ذلك كان هناك تشجيعٌ عليها من رسول الله ﷺ؛ لهذا نرى في سكان المدينة عمرو بن عبسة ومعاوية بن الحكم، وهما من بني سُلَيْم، وأبا ذرٍّ رضي الله عنه وهو من غفار، وغيرهم من مسلمي القبائل غير القرشيَّة. وكان -أيضًا- من وسائل زيادة المسلمين منع المهاجرين الذين هاجروا من القبائل غير المكيَّة من العودة مرَّة أخرى إلى قبائلهم، وعُدَّت هذه العودة كبيرةً من الكبائر، وهي كبيرة «التَعَرُّب بعد الهجرة»؛ أي العودة إلى حياة الأعراب بعد الحياة في المدينة. لهذا كان لزامًا على المهاجر -من غير مكة- أن يأخذ قراره بوضوح قبل الهجرة، فإنَّه قرارٌ لا عودة فيه.
أخيرًا، كان من وسائل زيادة المسلمين تشجيعهم على كثرة الإنجاب، وكان هذا مصحوبًا بسيلٍ عظيمٍ من التوجيهات لحُسن تربية النشء الجديد، لئلَّا تكون هذه الزيادة عبئًا على الأمَّة؛ كان أوَّل مولودٍ في الدولة الجديدة من المهاجرين هو عبد الله بن الزبير بن العوام، وأمُّه هي أسماء بنت أبي بكر، وكان أوَّل مولودٍ من الأنصار هو النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي، وأمُّه هي عمرة بنت رواحة[4].
[1] الدقل هو رديء التمر.
[2] مسلم: كتاب الزهد والرقائق (2978) واللفظ له، والترمذي (2372)، وابن ماجه (4146)، وأحمد (353).
[3] البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (1291).
[4] انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص347- 350.
أساسيات في الفكر الإسلامي الخاص ببناء الرسول لدولته في المدينة
العرض العادي
