اعلم- رحمني الله وإياك- أنه كلما ابتعد الزمن عن عصر النبوة اشتدَّ الضلال، واسودَّ الظلام، وعلا القَتَرُ، واستحكمت غربة الإسلام، ولكن الله تعالى بلطفه ورحمته وإحسانه لا يزال يستخلص ويصطفي فئامًا وأفرادًا من أمة نبيه الخاتم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، يقيم بهم دعائم الملة، ويحفظ بجهادهم- علمًا وعملًا- أركانه ومبانيه، ويستخلص منهم الأولياء والشهداء، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «بُدِئ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بُدِئ فطُوبى للغُرَباءِ»، قيل: ومَن الغرباء يا رسول اللَّه؟ قال: «الذين يُصْلِحُون عند فساد الناس»[1].
قال الشاطبي: «وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الإسلام وآخره، وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثه اللَّه تعالى على حين فترة من الرسل، وفي جاهلية جهلاء، لا تعرف من الحق رسمًا، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكمًا، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنته أَسلافها، من الآراءِ المنحرفة، والنحل المخترعة، والمذاهب المبتدعة، فحين قام فيهم صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللَّه بإذنه وسراجًا منيرًا، فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر، ونسبوا إليه كل محال، ورموه بأَنواع البهتان؛ فتارةً يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق، وآونة يتهمونه بالسحر، وكرة يقولون: إنه مجنون، كل ذلك دعاء منهم إلى التأسي بهم والموافقة لهم على ما ينتحلون، فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم؛ لأنه خرج عن معتادهم، وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم.
فأَبى عليه الصلاة والسلام إلا الثبوت على محض الحق، والمحافظة على خالص الصواب؛ وأنزل اللَّه: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الكافرون: 1، 2] إلى آخر السورة، فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة، ورموه بسهام القطيعة، وصار أَهل السلم كلهم حربًا عليه، عاد الوليُّ الحميم عليه كالعذاب الأَليم، فأَقربهم إليه نسبًا كان أَبعد الناس عن موالاته؛ كأَبي لهب وغيره، وأَلصقهم به رحمًا، كانوا أَقسى قلوبًا عليه، فأَيُّ غربة توازي هذه الغربة؟!
ومع ذلك فلم يكله اللّه إلى نفسه، ولا سلَّطهم على النَّيْل مِن أَذاه، بل حفظه وعصمه، وتولَّاه بالرعاية والكلاءَة، حتى بلغ رسالة ربه.
ثم ما زالت الشريعة في أَثناءِ نزولها، وعلى توالي تقريرها، تبعد بين أَهلها وبين غيرهم، وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا، وما زال عليه الصلاة والسلام يدعو لها، فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد، خوفًا من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإسلام.
ثم استمرَّ تزيُّدُ الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعد موته؛ وأَكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم، إلى أَن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأَصغوا إلى البدع المضلة؛ كبدعة القدر وبدعة الخوارج، وهي التي نبَّه عليها الحديث بقوله: «يقتلون أَهل الإسلام، ويدعون أَهل الأَوثان، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم» يعني لا يتفقهون فيه، بل يأْخذونه على الظاهر: كما بيَّنه حديث ابن عمر، وهذا كله في آخر عهد الصحابة.